أفلا تعقلون؟

حضرت مؤخرا ندوة نظمتها جمعية الأقليات بتونس بمناسبة ذكرى الغاء الرق والعبودية في أرض الخضراء، التي كانت المبادرة عربيا واسلاميا إلى هذا الإلغاء، وسبقت في هذا المجال تحديدا أمما متقدمة في مجال تكريس الحريات وحقوق الإنسان على غرار فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
فقد أصدر ملك تونس في السادس من سبتمبر 1841 أمرا يقضي بمنع الإتجار بالرقيق وبيعهم في الأسواق، وأمر بهدم الدكاكين التي كانت معدة لعرض العبيد في أحد أسواق الحاضرة (مدينة تونس العتيقة). وصدر لاحقا أمر في ديسمبر 1842 يعتبر من يولد على التراب التونسي حرا لا يباع ولا يشترى، وصدر أمر ملكي آخر بتاريخ 23 يناير 1846 حسمت فيه مسألة إلغاء الرق حسما قاطعا ونهائيا.
ولعل المفارقة أن ماضي هذه «الأمة» التونسية التواقة إلى التحرر وتكريس حقوق الإنسان واقعا منذ نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، أي مع بروز الحركة الإصلاحية التونسية، يتعارض، أو يكاد، مع حاضرها في ما يتعلق بالتعامل مع الطلبة الأفارقة، وحتى التونسيين من أصحاب البشرة السمراء. فعدد كبير من الطلبة الدارسين في تونس والمنتمين إلى بلدان إفريقيا جنوب الصحراء اشتكوا ويشتكون من ممارسات عنصرية تعرضوا لها، أصابت الكثير منهم بخيبة أمل في ربوع بلد اعتقد بعضهم أنه «فردوسه المفقود» الذي ينعم فيه الإنسان بالحريات، وتتساوى فيه المرأة بالرجل حقوقا وواجبات ولا يهان فيه أي كائن كان. ولعل السبب في هذه النظرة الإيجابية للأفارقة من سكان جنوب الصحراء إلى تونس، هو موروث الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، الذي جاب في وقت ما ربوع القارة الإفريقية مساندا لحركات التحرر، ومؤسسا لمنظمة الوحدة الإفريقية بمعية زعماء أفارقة كبار على غرار جمال عبد الناصر.
كما أن بورقيبة راهن على إنشاء دولة عصرية حداثية تحظى فيها المرأة بحقوق مساوية للرجل، وعمم التعليم في كامل ربوع البلاد، حتى جاز وصفه لدى البعض بـ»المستبد العادل»، باعتباره أنجز الكثير، لكنه لم يكن ديمقراطيا ولم يؤمن يوما بالديمقراطية وبالتداول السلمي على السلطة، ولم يوهم الناس بخلاف ذلك، ومنح الأولوية لبناء الدولة وفارق الحياة وهو لا يمتلك مجرد منزل يأويه.
لقد استمع الحاضرون في هذه الندوة لما يندى له الجبين، من شهادات لطلبة أفارقة في تونس بات كثير منهم يفضل وجهة أخرى للدراسة فيها على حساب الخضراء. هذه الوجهة باتت في السنوات الأخيرة، ونتيجة للأوضاع الاستثنائية التي يشهدها موطن ابن خلدون، تستقطب من تونس كل شيء (استثمارات، سياحا، طلبة أجانب).
وإن كان هذا البلد المنافس لتونس على استقطاب الطلبة الأفارقة لا يختلف عنها من حيث المعاملة العنصرية للأفارقة، بحسب ما جاء في شهادة مشاركين في الندوة من الطلبة الأفارقة يتصلون بمواطنين لهم يدرسون هناك، إلا أن هذا البلد يقدم التسهيلات ويخفف من القيود والإجراءات الإدارية على الطلاب الأفارقة. إذ تغيب في هذا البلد الشقيق التعقيدات التي عرفت بها الإدارة التونسية، والتي يرجعها البعض إلى التأثر بالإدارة الاستعمارية الفرنسية، رغم مضي ما يزيد عن ستة عقود على استقلال تونس.
لقد كان مؤلما ان يعرف المرء حقيقته كما هي دون مساحيق تجميلية، رغم أنها كانت صادمة للجميع وأثارت الذهول والاستغراب لدى كثير من الحاضرين. فليس طبيعيا أن يهان إنسان إفريقي في القرن الواحد والعشرين في قارته من قبل عناصر تنتمي إلى شعب كان سباقا في إلغاء العبودية، وفي سن عديد القوانين التحررية. وليس طبيعيا أن يوصف الإفريقي بعبارات عنصرية ويشبه ببعض الحيوانات ويتجنب الخروج من مقر إقامته كلما تبارى منتخب أو ناد تونسي في كرة القدم مع نظير له ينتمي إلى بلد من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، حتى لا يعتدى عليهم ولا ينالون حقوقهم لدى السلطات الأمنية في حال نشوب خلاف مع مواطن من أبناء هذا البلد.
فإلى أين نحن سائرون بهذا السلوك العنصري غير الحضاري لدى عدد من أبناء شعبنا؟ ألم يحن الوقت للضرب بقوة على أيدي «العابثين» بسن قوانين رادعة تجرم العنصرية وتعاقب عليها؟ وكيف نطمح إلى اقتحام الاسواق الافريقية اقنصاديا وبعضنا يعامل أشقاءنا من ابناء القارة بهذه العنصرية المقيتة؟ أيعلم بعض هؤلاء العنصريين، الذين يساهمون بسلوكهم السيئ في تغيير وجهة الطلبة الافارقة الى بلدان اخرى منافسة لنا، ان البنك الافريقي للتنمية من اهم ممولي الاقتصاد التونسي ولولا دعمه لكنا في خبر كان منذ سنوات؟ ورغم الاستقبال الذي حظي به مؤخرا بعض ممثلي الطلبة الأفارقة في تونس من قبل كبار مسؤولي الدولة للتخفيف من وطأة اعتداء عنصري تعرضت له طالبة من جمهورية الكونغو، إلا أن الجهد الرسمي يبدو دون المستوى المأمول. فما الذي يمنع البرلمان من سن قانون يردع من تسول له نفسه استهداف ضيوف تونس من أبناء القارة، رغم الوعود التي أطلقت بضغط من منظمات المجتمع المدني.
لقد سبرنا اغوار القارة الافريقية قبل غيرنا، منذ رحلات حنون القرطاجي الذي أقام المستوطنات والمرافئ التجارية في غرب القارة، في عصر كانت فيه الحضارات المنافسة على غرار الاغريق بداية والرومان لاحقا لا يتعدى مرمى ابصارها البحر الابيض المتوسط. أبحرنا شمالا وجنوبا كقرطاجيين في المحيط الاطلسي، او بحر الظلمات كما يسميه العرب الذين حالت الرهبة والخوف دونهم وركوبه. جلبنا الخيرات من هناك وربما الفيلة التي استعملها قائدنا الكبير حنبعل في غزوته الشهيرة لروما عبر البيريني والألب منطلقا من مستعمراتنا في شبه الجزيرة الايبيرية ( اسبانيا والبرتغال). لكننا اليوم نتقوقع على أنفسنا كتونسيين ولا نقبل الآخر، رغم أننا ننتمي وإياه إلى القضاء الجغرافي ذاته، ونترك قارتنا السمراء التي وهبناها تسميتنا التاريخية (افريقية) لغيرنا ليرتع فيها منفردا كما يشاء، ويلغي مسؤولونا الجولات الافريقية دون موجب تاركين الساحة لمن هب ودب في طبيعة تأبى الفراغ. هذه القارة اختصارا، نحن أولى بها وبأبنائها من غيرنا بالنظر الى التاريخ والجغرافيا وعديد الاشياء الاخرى. أفلا تعقلون؟
كاتب تونسي

أفلا تعقلون؟

ماجد البرهومي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية