أكاديميون وفنانون يفككون مفهوم التمثيل في الفنون بالدار البيضاء

الدار البيضاء ـ «القدس العربي»: نظم مركز الأبحاث الفنية والجمالية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بشراكة مع المكتبة الوسائطية التابعة لمسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء مؤخرا، ندوة «التمثيل في الفنون» بمشاركة نخبة من الباحثين المتخصصين في الدراسات السيميائية والفلسفية والسينمائية والفنية، وبحضور نوعي للباحثين والطلبة والنقاد والإعلاميين.
وقد ترأس الجلسة الأولى أحمد الصادقي، وكانت المداخلة الأولى لعبد الرحيم جيران، وتمحور موضوعها حول التمثيل في السرد، وقد استهلها بالحديث عن صعوبة تحديد مفهوم التمثيل، وأهميته في مقاربة السرد، ثم تحدث عن مستوياته التي حصرها في الفعل والذات، والعلاقة بينها، وبين الصيرورة. وأشار إلى أن تمثيل هذه المستويات يختلف – على مستوى الاشتغال- وفق مرحلتين سرديتين رئيستين هما: حقبة السرد العتيق، وحقبة السرد الحديث. وحصر تدخله في تناول التمثيل على مستوى الفعل في الحقبة العريقة، وقد بين أن الفعل السردي يخضع في هذه المرحلة للسمت الاجتماعي الذي يسنن الأفعال داخل الجماعة، رابطا بينه وبين الأمر الأخلاقي؛ حيث يضمر الاختيار الشخصي، ويحضر بدلا منه الواجب، بوصفه محضرا على نحو مسبق، ويحدد الأمداء التي بحسبها يتبلور الفعل سرديا، بما يعنيه ذلك من جهوزية، لا يقام على التقويم القبلي، أو التمحيص في ضوء ما هو شخصي- فرداني. كما لمح إلى العلاقة بين الفعل والاستحقاق، وكيف يصاغ الفعل السردي في مصهر النتائج التي هي بمثابة تثمين اجتماعي. وفي أثناء تحديد مظاهر تمثيل الفعل سرديا في السرد العتيق حرص عبد الرحيم جيران على تبيين الفروق الدقيقة في اشتغاله، حسب خصوصية الأجناس السردية من ملحمة وحكاية شعبية وحكايات تكون الجماعات، واختتم المتدخل مداخلته بالإشارة إلى أن تمثيل الفعل السردي لا يكتمل إلا بمقاربة المستويات الأخرى التي أشار إليها في بداية المداخلة. 
وتدخل بعد ذلك عبد اللطيف محفوظ في موضوع «خصوصيات التمثيل في فنون الفرجة»، منطلقا من صعوبة تحديد معنى المفهوم الغربي (La représentation ( وموضحا أن الصعوبة تزداد حين نفكر به مترجما، حيث يتنافس دليلان في الحلول مكانه عربيا، وهما « التمثيل» و»التمثل»، وقد توقف عند معنى كل منهما مجسدا الفوارق الدقيقة بين حديهما، وموضحا أن استعمال أحدهما دون الآخر يجعل المفهوم الغربي يحضر في العربية مؤوَّلا. ثم قدم ستة تعريفات متمايزة، لكنها متقاربة من حيث المدار الدلالي الذي يتمثل في وجود دليل ما يحضر إلى الذهن بوصفه معطى، يتطلب لكي يتجسد أن يمثل بدليل جديد يرسم حدود «التمثل» و»التمثيل» في آن.
وانطلاقا من المتشارك بين التعريفات التي قدمها وضح أنه يتماثل تماما مع تحديدات فلسفة بورس للدليل والتدلال. وخلص بعد تقديمه النظري، إلى توصيف خصوصيات التمثل في فنون الفرجة، موضحا كيف يصبح الأمر معها مضاعفا، خاصة في المسرح، حيث لا بد من التفكير في ما يتمثَّله الكاتب ويمثِّله بنص مكتوب، وفي ما يتمثله المخرج ويمثله بالعرض الذي هو توليفة من الأدلة المنتمية إلى توليفة من الأنساق، وما يتمثله المشخصون ويمثلونه بالكلام والحركات والتماسفات.. وانتهى إلى ضرورة فتح منافذ للبحث حول المفهوم وتحديده، انطلاقا من إدراك يستند إلى خلفية فلسفية.
أما السعيد لبيب فقد وسم مداخلته بـ»جون فرانسوا ليوتار: ومساءلة العين في الفن الطليعي (ديشان- مونوري- نيومان)، وانطلق فيها من محور الفن في زمن الرأسمال، حيث أن أول البداهات التي يدعونا ليوتار إلى التخلص منها، هي أن الغرب كان متصالحا مع الفنون على خلاف حضارات أخرى. فمفهوم «الفن» تمثل حديث، بحيث أن أول معرض كان في اللوفر في بداية القرن 18، واكبه ظهور جمهور من المشاهدين يتلقى الأعمال الفنية خارج كل طقوس احتفالية – كنسية: بحيث تغير مدلول فكرة الزيارة، فلم نعد نركع أمام أوثان، وإنما نمر أمام لوحات. فبعد أن كانت مؤسسات (البلاط) والمؤسسات الدينية أخضعت فاتورة الزيارة للاحتفال بمجد الملوك والآلهة، تشكلت مهارات فنية وشاعرية وتم العمل على نقلها (بواسطة معلمين وفي أوراش) التي أوكل إليها تحديد الذوق (عند الهواة). فقد تغيرت الأذواق، سواء عند المعلمين أو الهواة، تبعا لتغير المخيال الجماعي. لقد فرض العالم البورجوازي الفن من أجل الفن – بحسب الباحث- كنمط من التمثل عن العالم، متحررا من غائيته القربانية والطقوسية واللاهوتية، التي كان معبرا عنها لآلاف السنين. أن نعرض، هو أن نرى «الواقع» المرئي كموضوع لتملك ممكن: الإنسان والطبيعة. لقد كان ذلك مشروعا ضخما أخذ يتشفع ويعتمد في وجوده أولا بالأفلاطونية الجديدة منذ الكواتروشينتو، ثم من النزعة الفيزيائية الحديثة في القرن 17. فقد كان المعرض يستمد شرعيته من البصريات الهندسية وميكانيكا القوى (المطبقة على الجسد الانساني نفسه)، ضمانا لعقلنة العالم المرئي والتحكم فيه من طرف الفكر.
فكانت النتيجة الحتمية لهذا التمثل، في الأزمنة الحديثة، الاحتفاء بمَلِكِ جديد آت: الإنسان العقلاني».»لكن الطلائعيين استبقوا إفلاس هذه النزعة الإنسانية، من خلال معاصرتهم لأزمة العقل الفيزيائي والرياضي، بعد 30 أو 40 سنة من أزمة الرأسمالية، وحربين عالميتين، وظهور أنظمة شمولية قوضت قيم الانسان البورجوازي، وكذا الأمل (الحديث أيضا) في جعل مشعل هذه القيم في يد الثورة الاشتراكية، وهي القيم التي ستتخذ صورة بارودية مع الستالينية الدموية، في صيغة «نزعة اشتراكية» فرضت على الفنون والآداب، بحيث لن تعرض وتصور هذه الأخيرة سوى «مجتمع مدني» منعدم في الواقع. في حين انصبت مداخلة معزوز عبد العلي حول «مفهوم التمثل في الفن وفي الفلسفة»؛ منطلقا من التمثُّل كمفهوم فلسفي؛ ذلك أن للمفاهيم تاريخا لكنه تاريخ مُحايث وليس مثاليا. في كتابه «الاختلاف والتكرار» يرى دولوز أن التمثل هو ما يحول دون الاختلاف، أو بعبارة أخرى، أن التمثل يرسي دعائم المُتطابق. التمثُّل لعب، دوما، دورا في تاريخ الفلسفة، خاصة في الأنساق الفلسفية الكبرى من حيث العمل على احتواء كل ما يندُّ عن المفهوم، وكل ما يستعصي على الفكر التَّوَّاق إلى الوحدة وإلى التطابق. داخل النسق الهيجلي يُقحَمُ التناقض، ولكن فقط في أفق تركيبه على نحو لا يتركُ أثرا للاختلاف. كل ما هو مُختَلِف ولا متطابق مَقصيٌّ من النظام الفلسفي. لا يحتمل النسق الفلسفي ما يزيد عن الحد وما ينقصُ عنه: أي المختلف. دأبتْ الفلسفة قبل الحديثة على إرساء التطابق مستعينة في ذلك بالتمثُّل. يُستعان بالتمثُّل من طرف العقل من أجل إرساء الهوية أو ما يُفْتَرضُ أنه هوية. يضيف معزوز، السيمولاكر عند أفلاطون، الذي لا هو الشيء ولا نقيضُهُ مثال على الاختلاف أو على المختلِفِ، وهو بسبب عدم انتمائه لا للأصل ولا للنسخة منبوذ ومقصيّ من النسق الأفلاطوني.
لماذا هذا الإقصاء؟ لأن في السيمولاكر ما يستدعي الخوف، وبالتالي التَّوجُّس منه: فهو لا قرار له ولا نظام، فيه تتكثَّف كل أنواع الفوضى، وكل أشكال السديم، وكل ألوان الطيف.
حسب دولوز لا مبرِّر لإقصاء السيمولاكر سوى المسوغات الأخلاقية. إن قِوَامَ التمثُّل يكمُنُ في هوية الأنا المفكر وهوية المفهوم؛ فالفكر الفلسفي ما قبل الحديث يعتمد على أربعة مبادئ: 1- تطابق المفهوم 2-تعارض المحمول 3- التماثل في الحكم 4- التشابه في الإدراك. والتمثّلُ يرجع إلى مفهوم الهو هو، أو ما يمكن أن نسميه بالذات نفسها أو بالشيء نفسه. إضافة إلى عنصر أساس في التمثل وهو الذاتية: الذات هي المرجع المشرِّع والمؤسِّس. وهي في كلِّ ذلك تُثبتُ ذاتها. الذات تسن المعايير وتضع القواعد. إنها تتسيَّدُ على نفسها وعلى العالم، ووسيلتُها في هذا التَّسيُّد التمثُّلُ، وهي تستدعي كل ما يمثلُ أمامها وتُخضِعُهُ للتمثُّل. هذا كله ليس تنقيصا من إمبريالية الذات ما دامت هي المنطلق في الحداثة الفكرية الفلسفية والفنية. لينتهي الباحث إلى أنه لولا تأسيس استقلالية الذات في بداية العصور الحديثة لما ابتدُعَتْ الفنون ولما حاز المجال الفني والجمالي على شرعية التأسيس. يُرجِعُ هابرماس منطلق الحداثة إلى استقلالية الدوائر التالية: الدائرة الجمالية والدائرة الحقوقية والدائرة السياسية. أما مداخلة الفنان التشكيلي والناقد بنيونس عميروش «التمثيل» ومفارقاته في التشكيل المغربي المعاصر فقد قاربت «الصورة»، باعتبارها، موضوع نقاش متجدد منذ عهد بعيد في العالم العربي الإسلامي، مع تطور المجتمعات والعقليات والرؤى، بينما بقي الحسم في إباحتها بين مؤيد ومعارض لدى الفقهاء وعلماء الدين.
ولعل «الصورة» بالمعنى الذي يهمنا في هذا المقام، تبقى موازية لمسألة «التمثيل»، باعتبار الصورة تمثيلا للواقع المرئي. إذا كانت الصورة ضمن خلفية «التمثيل»، باعتبارها سؤالا استشكاليا في الأدبيات الفقهية الإسلامية، فقد ظلت محصورة بين «التحريم والتحليل» داخل منظومة متجددة يتداخل فيها التراثي والحداثي. أما الجلسة الثانية التي ترأسها عبد العالي معزوز فقد افتتحت بمداخلة نبيل بنعبد الجليل «التمثيل في الموسيقى الكلاسيكية» التي حفرت عميقا في الموسيقى بوصفها فنا من أكثر الفنون استهلاكا في العالم من دون أن يُحصِّنَها ذلك من الابتذال، والحال أنها أكثر الفنون رُقِيًّا. غالبا ما اعتُبِرَتْ الموسيقى فنا تابعا لفنون أخرى، مثل اعتبارها موسيقى تصويرية مُلْحَقَة بالفيلم السينمائي أو بالمسلسل التلفزيوني. والواقعُ هو أنها فن مستقلٌّ بذاته يملك قدرته التعبيرية الذاتية، دونما حاجة إلى كلام أو حوار أو صورة، فقط النَّغم هو المهمّ، وفي هذا السياق يمكنُ التمييز بين الموسيقى الطَّرَبِيَّة والموسيقى العالمة. ويجدُرُ التنبيه إلى أنَّ الشائع عند جمهور المُستمِعِين في عالمنا العربي أن الموسيقى هي أصلا طرب، بينما الموسيقى في الثقافة الغربية فنّ تعبيري. بطبيعة الحال لا يمكنُ مجاراة رأي الموسيقار الروسي الكبير سترافنسكي في رأيه القائل بأن الموسيقى لا تُعبِّرُ عن شيء سوى ذاتها.
إذن يمكنُ القول إن للموسيقى -مثلما هو الحال في السينما أو في غيرها من الفنون – لغة خاصة بها. ويخلص إلى أنه يمكن تحليل التمثُّل الموسيقي أو التمثُّل في الموسيقى. فمفهوم «التمثُّل» أو «التمثيل» يتجلَّى أكثر ما يتجلَّى في الموسيقى الرومانسية أو الموسيقى في العصر الرومانسي التي يمثِّلُها الموسيقار الألمانيّ العبقري بيتهوفن، حيثُ طوَّع الموسيقى وأخرجها من القوالب الجاهزة للتعبير عن الذات وعن الأنا. وإن شرطُ الذاتية في الفن عامة والموسيقى بصفة خاصة هو التمثُّل.
وركزت مداخلة المخرج المغربي هشام العسري على التمثيل الاجتماعي متناولا بالتحليل فيلمه: «هُمُ الكِلاَب» الذي حاول أن يرصد لحظة الربيع العربي سنة 2011 وانعكاساتِهِ على المجتمع المغربي مُقْرنا هذه اللحظة بلحظة عسيرة هي الأخرى وهي التي اتَّسَمَتْ باعتقالات 1981، ولكن من دون استعمال تقنية الفلاش باك. ذلك أن السينما تمثِّلُ، بالنسبة له، فنا لتمثيل الواقع الاجتماعي، ولا يكون تمثيل الواقع بنقْلِهِ حرفيا، وإنما بتناوُلهِ بلغة سينمائية مبتكًرًةٍ. كما قال إن السينما بالنسبة إليه ضدّ الخطاب لأنها أولا وأخيراً لغة بصرية تعتمد الرمز والاستعارة.

محمد العناز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية