ألم يكن حالنا أفضل قبل هذه الثورات؟

■ أكاد أسمع الإجابة بنعم يرددها الكثيرون بتلقائية قد لا تكون دقيقة. لا تتسرعوا ودعونا نحلل بموضوعية. أقف بشموخ مدافعا عن هذه الثورات، رغم فشل معظمها وأواجه بسؤال استفزازي مثل عنوان هذه المقالة. مع كل هذا القتل والدمار والخراب، أيعقل أن يكون الرد بغير نعم! لقد أصبحت حال بلادنا من السوء بحيث أنها عادت الى الوراء عشرات السنين، من الناحية الاقتصادية والعمرانية، وأقل ما توصف بها الاوضاع الان هو حروب اهلية وطائفية لا نهاية لها في نظر المتشائمين، اذن من أين يأتيني التفاؤل وسط كل هذا الظلام؟
دعونا نتفق أولا على استبعاد نظرية المؤامرة، أو على الاقل في بدايات هذه الثورات. انه من المجحف والمخجل معا أن نصادر أبداع الجماهير التي خرجت الى الميادين مستعدة للتضحيات في سبيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بل العدالة الشاملة في شتى مجالات الحياة. الثورات بدأت كصرخات مدوية ضد الفساد السياسي والمالي والاخلاقي، بعد أن أصبحت الأوطان مزارع خاصة للحكام ومن تحلّق حولهم من الطفيليات، وسجنونا ضمن اسوار المزرعة كالقطيع.
اندلعت الثورات ضد القمع والديكتاتوريات والتنكيل وكبت الحريات بكافة صورها. أسمع أيضا القائلين بمؤامرة الفوضى الخلاقة التي بشّرت بها امريكا قبل بضع سنين، وكأن ما من نملة تدب في شوارع القاهرة أو دمشق أو بنغازي الا بأمر أمريكا عند هؤلاء، وكأن التاريخ لا يُكتب غلا في واشنطن.
اندلعت ثورات من قبل في امريكا الجنوبية واوروبا الشرقية ولم تستغرق وقتا طويلا لتبدل الديكتاتوريات بديمقراطيات. منطقتنا العربية لها وضع خاص، تلخص ببترول واسرائيل، المنزرعة في قلب الوطن، وموقع استراتيجي يشرف على قناة السويس ومضيق باب المندب، وثقافة شرقية ودين يختلفان ايديولوجيا مع الكثير من المعتقدات الغربية، وجاهلية وقبلية ومكاسب حزبية، ما زلنا غير قادرين على التخلص منها لصالح الوطن. هذه العوامل مجتمعة وغيرها دفعت الكثير من القوى المحلية والأقليمية والخارجية للتدخل (سرا وعلنا) لجني بعض الثمار، حتى قبل أن تنضج،  فأعاقت وصول هذه الثورات لأهدافها، او منعتها من تحقيق مرامها. دعونا نعود للسؤال الوجودي أعلاه. نعم خسرنا بحسابات الربح والخسارة، ولكننا  كسبنا أنفسنا، وتخلّصنا من عقدة الخوف ومن رعب السجون التي كنا نهدد بها من الطغمة الحاكمة، وازدادات مساحات الحريات في الوطن العربي، حتى في الدول التي لم تندلع فيها الثورات، وكذلك حجم الوعي بحقوق الانسان والمحاسبة والمساءلة والشفافية.
قد يقول قائل، كانت البلاد آمنة ومستقرة.. لا يا عزيزي، انه صمت المقابر. هل كان يجرؤ أحد أن يستفسر عن مصير ولده أو أخيه أو صديقه في غياهب المعتقلات، تحفى الأقدام للسؤال: أهو حي أم ميت؟ ولا جواب، في احتقار واضح لإنسانية المواطن، والغاية ان يكون المفقود عبرة لغيره حتى لا يرفع احد صوته مطالبا بأبسط حقوقه، وقد كان.
الثورات بمجملها تعرضت لمحاولات إجهاض لأسباب مختلفة حسب طبيعة الصراع في كل قطر. لكن الشعوب ما زالت متمسكة بالحلم.. ما زالوا يتظاهرون في مصر ضد الانقلاب، غير مبالين بالاعتقال، في تمسك واضح بحرياتهم. في سوريا ما زالوا يقاتلون، حتى بعد ان تكالبت عليهم الامم. في ليبيا يحاولون الحفاظ على ثورتهم من محاولة انقلابية تحاكي ما جرى بمصر. في اليمن الحوثيون قدموا للحكومة اليمنية (تحت تهديد السلاح) مطالب  ظاهرها عدالة اجتماعية وباطنها مصالح طائفية، ابتزاز واضح. تونس تستعد لبناء ديمقراطيتها الاولى مع عودة ظاهرة لرجالات العهد البائد، وكما يقول احد الكتاب، لم يبق الا ان يعود  الرئيس بن علي. وفي العراق طائفية و»داعش» واكراد وتدخل امريكي واوروبي. مع كل هذا، يعود السؤال المحيّر: ألم يكن حالنا أفضل قبل هذه الثورات؟ لا، لأن المستقبل لم يأت بعد.
لقد خرج الجني من القمقم، ولن يستطيع أحد، رغم كل الخزعبلات، أن يحشره في القمقم ثانية، رغم قتامة الجو، ستستمر هذه الثورات، لقد زلزلت اساسات واركان الانظمة، ولن تقوى على أن تظل قائمة، ولن تنفعها عمليات التجميل والترميم والاسناد. هذه ليست نبوءة أو تنجيما أو تفاؤلا من دون دليل، ولكنها حتمية التاريخ الذي ليس بالضرورة أن يُكتب بواشنطن، باريس، لندن، او تل أبيب.

٭ كاتب فلسطيني

د. خليل قطاطو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    مقالك يا دكتور خليل يبشر بالخير وكل الأحرار معك
    انه مخاض ظن البعض أنه يسير لكنه يحتاج لعملية قيصريه
    لا أعتقد أن حرا واحدا بعد هذه التضحيات الجسام يتمنى العودة للعبوديه

    لقد كنا نسحل ونداس بالأقدام وتنتهك أعراضنا لأجل رأي مخالف
    لا وألف لا

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول نور الدين البشير/ تشاد:

    كل ما جرى نتيجة حتمية لإفرازات الديكتاتورية التي حكمت المنطقة ما بعد الاستعمار ومع أن الوضع سيء للغاية ما يجعل الكثير يتشاءم ويتمنى العودة للماضي، إلا أنيي مع الكاتب لاعودة للماضي الذين كان سببا في كل مايجري يجب أن يستمر النضال والكفاح ولايستسلم الناس لأبواق الهزيمة والإحباط المعركة طويلة والمستقبل في صالح أهل الحق، شكرا للكاتب على الروح العالية.

  3. يقول صالح:

    يا دكتور خليل: نعم لقد كان من الأفضل للجميع وخاصة للقضية الفلسطينية عدم بدء الكلام الفاضي المسمى بـ”ثورات الربيع” الأمريكي للأسباب التالية:

    أولا: تراجعت القضية الفلسطينية حتى أنها لم تعد تذكر تقريبا بسبب انشغال المواطن العربي في الأقطار الأخرى بالكوارث التي حلت عليه فجأة ودون سابق إنذار باسم الديمقراطية؛

    ثانيا: تحولت بعض الدول العربية إلى مجموعة من الكانتونات التي تسيطر عليها قوى أقل ما يقال فيها أنها لا تمت إلى الديمقراطية بصلة. فقد انتشر الفكر التكفيري الظلامي الجاهلي فيها، وسادتها عمليات تقطيع الرؤوس، وبتر الأطراف، واغتيال المعارضين، والتعذيب وغير ذلك من أساليب جلبتها ديمقراطية “الثوار” من جميع أصقاع الأرض على أيدي الزعران المجرمين وقطاع الطرق والمخمورين الذين جاؤوا وهم يعتقدون أن التوبة إلى الله والعودة إلى الإسلام تعني كل ذلك؛

    ثالثا: “ثوار” الديمقراطية الجدد الذين انتشروا كالجراد يأكلون كل ما هو خيّر في وطننا العربي دفعونا لنتحسر على أيام مخابرات بن علي، والأسد، ومبارك ومعمر وغيرهم. الحكام المذكورون كانوا قديسين مقارنة بالمطالبين بديمقراطية “الثوار الجدد”؛

    رابعا: عن أي مستقبل تتحدث يا دكتور وقد أصبح نصف مواطني بعض الدول العربية إما لاجئين في بلدان أجنبية أو هاربين داخل بلدانهم يصارعون من أجل البقاء؟ أي مستقبل يدعو إلى تدمير كل شيء من المنازل إلى المصانع والمستشفيات وحتى القبور والمراقد التي قدسناها؟ عن أي مستقبل تتحدث وكل شيء يبعث على الفرح في الوطن العربي قد تحول إلى حسرة؟

    خامسا: أين ترى التفاؤل؟ في الرقة أم في الموصل؟ ربما في درعا؟ أو باعتبارك فلسطينيا ربما في القنيطرة وهضبة الجولان المحتلة التي أخذ العدو الصهيوني يستعين فيها بالمقاتلين “الثوار” الذين يقتلون الجنود السوريين ويذبحون المدنيين قبل أن يلجؤوا إلى العدو الصهيوني لأخذ قسط من الراحة.

    الأمور في وطننا العربي انقلبت وأصبحت للأسف تسير على رأسها. البوصلة انحرفت إلى حد التحالف مع العدو الصهيوني الغاصب ضد جيش عرف بوطنيته ودفاعه واستشهاد أفراده وضباطه في معاركه ضد العدو الصهيوني.

    لا تحدثني عن مستقبل لهذه “الثورات” التي لم تجلب علينا إلا القتل والذبح والدمار والخراب وجعلتنا نعض أصابعنا ندما على أيام حكم أجهزة المخابرات العربية.

    1. يقول سلمى:

      لا أعرف عن أي عالم عربي يتحدث الأخ صالح؟ لا أذكر أن الجيوش العربية كانت تقف على باب القدس و آمل أنه لا يعني ” الجيش السوري” بالجيش الذي عرف بوطنيته! بالنسبة لأغلب السوريين هو عبارة عن عصابة سامتهم سوء العذاب . حسبنا الله و نعم الوكيل .

  4. يقول kamal:

    لا امل في الجسم الميت ان يغير شيء, اما الجسم الذي يتحرك فيبقى فيه امل , مهما كان ضئيل يبقى افضل من الصفر.

اشترك في قائمتنا البريدية