«إسلام السوق» للباحث السويسري باتريك هايني: أنماط جديدة من التدين الإسلامي

بعيداً عن النظرة الاستشراقية للإسلام والمجتمعات الإسلامية، وتماشياً مع تيار ما بعد الحداثة الذي ضرب هذه المجتمعات وأفكارها، فتصدير صورة المجتمعات الإسلامية المنغلقة في الغرب والتدعيم الإعلامي لتثبيت مثل هذه الصورة، يبدو بعيداً عن الحقيقة، وهو ما يحاول رصده الباحث السويسري باتريك هاينه، في مؤلفه المعنون بـ «إسلام السوق»، والصادر بالفرنسية في العام 2005. ورغم الفارق الزمني الكبير بين تأليف الكتاب وترجمته إلى العربية، إلا أن محاوره الأساسية لم تزل تعبّر وتوضح عدة قضايا تتناول الشكل الجديد من أشكال تفاعل المسلمين مع العالم، وتصدير الوجهة الدينية حسب مدارات العولمة. الحديث هنا عن القطاع الأعم من المسلمين، دون فئات أخرى متأسلمة، وحركات جهادية ــ لم تنظيم «الدولة» قد ظهر وقتها ــ فالصدمة الحضارية للمجتمع الحديث أصابت وأثرت على المجتمعات الإسلامية وطرق معيشتها، بل وطرق ممارسة التدين، ومن هنا يرصد الباحث أشكال هذا التدين، ليكشف عن أنماط جديدة من التدين يمارسها المسلمون على اختلاف هوياتهم وبلدانهم. ويوضح المؤلف مقصده بـ«إسلام السوق» بأنه «مصطلح تحليلي يستند أساساً إلى فكرة الربط بين أنماط معينة من التدين الإسلامي والأسس الفلسفية للسوق مثل النزعة الفردية، والانفتاح، وأولوية الشأن الخاص على العام المرتبط بالدولة، والتخلي عن السرديات الأيديولوجية الكبرى. فالكتاب لا يتحدث عن الدين بل عن أنماط جديدة من التدين».

بعد عشر سنوات

في مقدمة الطبعة العربية يرصد الكاتب بعد عشر سنوات من صدور كتابه كيف تفاعلت المجتمعات العربية مع حركتي الأسلمة والعولمة في الوقت ذاته مع عجز الإسلام السياسي عن طرح بديل فعلي، من هنا ينطلق إلى مصطلح «إسلام السوق» الذي هو مزيج من النزعة الفردية ونزعة القداسة عن الالتزام التنظيمي وإعادة النظر في فكرة شمولية الإسلام، ليظهر التدين الورع الذي لا يولي لمسألة الدولة والثقافة المرتبطة بالطبقة الاجتماعية اهتماماً. «إسلام السوق» هو حافز للانفتاح على العالم على حساب الهوية، وهو حالة منتشرة بين أطياف التوجه الإسلامي من الإخوان إلى السلفية والصوفية والدعاة الجدد وأصحاب المشاريع الرأسمالية ذات الطابع الإسلامي. «إسلام السوق» إذن فكرة للربط بين أنماط معينة من التدين الإسلامي والأسس الفلسفية للسوق مثل النزعة الفردانية والانفتاح وأولوية الشأن الخاص على العام المرتبط بالدولة والعولمة ونزعة الاستهلاك المزمنة.

التيارات الاصولية وتيارات الواقع

يفرق هايني بداية ما بين التيارات الإسلامية الاصولية، التي بدأت في التراجع، ونشوء تيارات أخرى استغنت وابتعدت عن الخطاب الإسلامي العتيق، المتمثل في خطابات التيارات التي نشأت بعد سقوط الخلافة العثمانية، والمناداة والسعي لتحقيق المقولات الكبرى/الأيديولوجية كأسلمة الدولة والمجتمع واستعادة الخلافة. يتمثل الأمر في حالة الدعاة الجدد، الذين ابتعدوا عن بث مفاهيم الخلافة وكيفية استعادتها، والأمثلة كثيرة أهمهم عمرو خالد، والفئة المستهدفة من ندواته الدينية في شكلها الحديث، فهؤلاء ليسوا مرتادي الجوامع، بل النوادي الشهيرة وفنادق الخمسة نجوم، ومن الممكن أن نضيف وجوهاً مثل معتز مسعود ومصطفى حسني، فقد أصبح الدعاة يرتدون على الموضة ويذهبون إلى النوادي الرياضية، ويتحدثون في لغة أشبه بلغة الحياة اليومية، بعيداً عن لغة عتاة الدعوة، الغارقة في البلاغة والمفردات الصعبة والغريبة عن المستمعين في أغلب الأحيان ــ يتم هنا تصدير حالة موهومة من المساواة بين مستمعي عظات هؤلاء الدعاة، فالمؤمن لم يعد كسير النظرة منطفئ الملامح ــ فخطاب هؤلاء الدعاة يعتمد الفرد في المقام الأول، وبالتالي يُشبع حاجته لتدين متوازن يأمن معه غضب السلطة.
ومن أساليب الدعاة الجدد استغلال التكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة، ويصل الأمر بضروب الزي الإسلامي من الحجاب وما شابه، فالموضوع أصبح يرتبط بالموضة، وأن الحجاب لم يعد قاصراً على تفكير ديني في المقام الأول، بل أصبح اجتماعياً، ومن خلاله يتم البحث عن أشكال التجديد. الأمر اقتصادي في المقام الأول، فالحجاب في أشكاله المتعددة رمز اجتماعي يدل في المجتمعات المتخلفة على المعيار الأخلاقي والسلوكي، أو على الأقل يحفظ الحد الأدنى للثقة في المرأة ــ ومن المُنتَج إلى الشركات المنتجة، والمتمثلة في الشركات التجارية الإسلامية الجديدة، فيذكر المؤلف: «يدفع التطلع إلى جذب زبائن غير مسلمين، المنتجين إلى تخفيف درجة مرئية المكونات الإسلامية الدينية في المنتج وتطوير خطاب أخلاقي أكثر إدماجاً يحل محل الخطاب الديني بمعناه الدقيق». فالإشكالية تبرز هنا في استحالة التوافق بين جذب الجمهور الغارق في العولمة والامتثال لمبدأ التمايز الذي يتضمنه خطاب الإسلام السياسي، فأصبح الأمر يتعلق بالتفكير في الإسلام كمنتج موجه لمستهلكين وبالتكيف مع مطالب النفس بدلاً من إصلاحها، والتنازل عن الهوية في مقابل عرض منتج إسلامي يتناغم مع متطلعات جمهور غارق في الاستهلاكية، ومن ثم تتم التضحية بالعامل الأيديولوجي والهوية في سبيل الربح. كما أن اللجوء إلى السوق يعد ــ كما يرى المؤلف ــ وسيلة للثأر الديني، ومصدراً لاستعادة الكبرياء لدى الأقليات في أوروبا، فيصبح إسلام السوق فخراً للمتشبثين بالنجاح. لم يُشر المؤلف إلى أن فكرة التجارة تستحوذ على العقل الإسلامي، فهي ليست بالغريبة عليه، بداية من النصوص المقدسة وصولاً إلى السيرة المحمدية، فالتجارة هي أساس هذا الدين حسب المجتمع الذي أفرزه.
وقوة المال هي التي تتحكم الآن، بالتالي خرج الشكل الجديد من التدين عن عباءة أفكار بالية عن أسلمة الدولة والجهاد والنضال بالدم، بل أصبح إسلام المشاريع التجارية هو النغمة السائدة، ومن خلاله سيتم فرض النمط على الجميع ــ عملية إحلال ناعم ــ ليس بالمواجهة ولكن بالحيلة. فالنضال لم يعد نضالاً كلاسيكياً تتمثله الحركات الإسلامية، بل نضال المؤسسات الصغيرة ومحاولة فرض سيطرتها على السوق والنزعة الاستهلاكية المتفشية في العالم.

ما بعد الربيع العربي

ولكن يدور التساؤل الآن حول مدى صمود هذه الأفكار بعد الربيع العربي، وبعد انقلابه إلى جحيم نعيشه الآن، وقد أصبح الصراع بين الحركات المتأسلمة والقوة العسكرية التي استردت السلطة في شكل جديد أكثر عنفاً وتسلطاً، وبينهما يغيب الروح الثوري أو على أفضل تعبير وتقدير يحاول جمع شتاته مرّة أخرى. فالتنظيمات الإسلامية وفي مقدمتها تنظيم «الدولة» يتنفس المقولات والسرديات الكبرى، بل ويطبقها بالضبط على أرض الواقع، فلم تعد مقولات تتم المناداة بها في زوايا الجوامع البعيدة عن مؤسسات الدولة، بل أصبحنا نطالعها على شاشات الفضائيات! حتى أوروبا لم تسلم من تبني هذه المقولات والأفكار، وما الصراع الدموي بين التيارات والحركات الإسلامية وبين القوى النظامية التي تقاتلها إلا دعوة للتمسك أكثر بهذه السرديات الضاربة في عمق الفكر الأصولي.
ولكن المتأسلمين يبحثون دوماً عن حالة من التوازن والتحايل، فرغم ابتعاد الواقع الآن عن بعض أفكار المؤلف، إلا أن ذلك مرهون بما سيحدث، فلو تم لهم النصر فالكتاب سيصبح سِفراً تاريخياً، ولو تشتتوا وانهارت أحلامهم مرّة أخرى، سيعاودون الظهور في مظهر المتفاعل مع مظاهر التحديث والإصرار على الاندماج في المجتمع العالمي. من ناحية أخرى يبدو استغلال مناحي الحداثة والثورة التكنولوجية وأهمية شبكات التواصل لا غنى عنه اليوم في التواجد ونشر الأفكار، حتى ولو في صورة الوجه المُسالم والمُبتسم في وجه الجميع، ولو على سبيل الصدقة، فالتبسم في وجه أخيك في الإنسانية صدقة.

باتريك هايني: «إسلام السوق»
ترجمة: عومرية سلطاني
مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة 2015
226 صفحة.

«إسلام السوق» للباحث السويسري باتريك هايني: أنماط جديدة من التدين الإسلامي

محمد عبد الرحيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية