منذ أشهر طويلة تعرفُ عائلة الأديبة اللبنانية أميلي نصرالله، ويعرف أصدقاؤها، أنَّها ليست على ما يرام؛ فعلى حين غرة منها ومنهم أدركها المرض الفتاك، ولم يُفلح الطب في صده، أو أقَلَّه في الإبطاء من فتكه، فراحت تذوي رأي العين إلى أن كان فجر الأمس وهاجرت نصرالله هجرتها الأخيرة.
استباقًا للأسوأ الذي كان في الحسبان تتالت خلال الأشهر الأخيرة مراسم التكريم، فمنحت في أغسطس/آب الماضي جائزة غوته، وسارع لبنان الرسميّ إلى استلحاق نفسه فمنحها رئيس الجمهورية على مطلع هذه السنة وسامًا، ولم يتأخر لبنان الأهلي عن القيام بواجب المجاملة، فتداعى عددٌ من المنتديات الثقافية إلى الاحتفاء بها، وتكللت هذه المبادرات التي تتالت بين استحكام الداء ونفاذ سهامه إلى المقتل، بصدور كتابين اثنين يُكَرِّمُها كلّ منهما على طريقته.
مُلَخَّصُهُ: ماتت أميلي نصرالله ولا عتب تعتبُه على أهليها الأقربين ولا على أصدقائها الأبعدين، وكأني بهذه الخاتمة الدافئة في عائليّتها أشبه بها من كثير مما سيتباراه الرّاثون في رثائها بوصفها الأديبة والروائية؛ ففي سيرة نصرالله من الرواية مقدار ما في كتاباتها التي روت في العديد منها نتفًا من هذه السيرة.
بفضل خالها المهاجر إلى الولايات المتحدة أمكن لأميلي أبي راشد (المولودةِ عام 1931 في كوكبا الواقعة في الجنوب الشرقي من لبنان)، أن تلتحق بكلية بيروت الجامعيّة، وأن تدرس الصحافة. وما أن أنهت دراستها حتى التحقت بدار الصيّاد، إمبراطورية سعيد فريحة، التي لم تنقطع عن الكتابة في مطبوعاتها الشتى إلى عام 2000.
بعد هذه الولادات الثلاث، الولادة للحياة، والولادة للمدينة، والولادة لمهنة الصحافة، كانت الولادة الحاسمة والنهائية لأميلي نصرالله عام 1962، يوم أن نشرت كتابها الأوّل «طيور أيلول» الذي يكاد عنوانه أن يختصر المواضيع التي لم تفتأ كتاباتها تدور حولها وعليها: الهجرة، القرية، والحنين.
من أوَّل صدوره حظي «طيور أيلول» باستحسان ما يمكن وصفه بالفريق المحافظ مِنَ «الإستبلشمنت» الأدبي في لبنان وتكرّست مكانة إميلي نصر الله الأدبية، ورفد هذا التكريس بأسبابِ المنعة والدوام أنَّ اعتُمِد «طيور أيلول»، ثم سواه من إنتاجها الأدبي، في العديد من المناهج المدرسية. والحال أن هذا التكريس المزدوج أحسن إلى نصرالله مقدار ما أساء، على نحو ما، إليها. فإذ رفعها، هي، إلى مرتبة «الأيقونة»، خفض من قيمة أدبها الشرائيَّة في سوق، يجب ألّا يغيب عنا أنها كانت تعج بالتجارب الحداثية، وكان أقطابها، من الرجال ومن النساء، سواء بسواء، يتبارزون في تحطيم الأصنام والأيقونات. فصخب ستينيّات بيروت وسبعينياتها لم يبلغ مسامع أميلي نصرالله، ابنة الكفير الخجولة، ولا يبدو أن بيروت استوقفها كثيرًا أدب الهجرة والحنين إلى الأصول الذي كانت أحد أعلامه، والذي لم يلبث أن ثبت (لسوء الحظّ) أنَّهُ ألصق بوجدان اللبنانيين وأصدق تشخيصًا، بالمعنى الطبي للكلمة، عن مكنوناتهم. ولا ما يدهش لربما في أنَّهُ كان كذلك… ففي ما يتجاوز الأدب، إ سارت بيروت إلى الحرب بجذل مدهش لأن ناسها لم يتبينوا أنَّ هواجسهم وأحلامهم على طرفي نقيض!
لم تأنف إميلي نصرالله يومًا من وصف نفسها بأنها «فلاحة تكتب»، وإذ هي لم تفعل، فالأولى بأن يُحْمَلَ وصفُها لنفسها، واستطرادًا لأدبها، على محمل الجد، وبأن تُقْرَأ كما كَتَبَت وكما أحبَّت أن تكون… بلا زيادة ولا نقصان!
٭ روائية لبنانية
رشا الأمير