إنصاف الأعداء والخصوم

هو أدب إسلامي راقٍ، بل هو أدب نما في بلاد العرب حتى في عصر ما قبل الإسلام. في عصر الجاهلية الذي تميز بعلاقة مميزة تربط بين القبيلة وأفرادها، تلك الجاهلية التي لم تكن جهلاً مجرداً، إذا ما اصطحبنا العلوم والأخلاق التي تميز بها «الجاهليون» والتي لم تسم كذلك إلا للإشارة إلى تلك الفترة من التاريخ العربي التي سبقت الإسلام.
بالإضافة إلى البراعة في تتبع الأثر وقراءة النجم وقرض الشعر كانت تلك «الجاهلية» تعلّي من شأن مكارم الأخلاق، كالكرم والصدق والعدل وإغاثة الملهوف، وغيرها من الصفات التي سوف يفتخرون بها ويحاولون الحفاظ عليها مع الأجيال. إن مجتمعاً لا يقدّم أحداً على الشعراء ويفخر بانتماء الشعراء النوابغ إليه، لا يمكن أن يوصف بالجهل، إلا إذا كان المقصود بالجاهلية هو تلك الحالة العقلية التي تمنع الإيمان بالله وتحجب عن النفس والروح الاهتداء إلى سكينة التوحيد. الواقع أن شعباً تميز بالكرم والجود والشجاعة والصبر وأخلاق الفروسية لا يمكن وصفه بالمتخلف، لمجرد أن نظامه القبلي كان مختلفاً عما كان حوله من نظم سياسية أكثر تطوراً وأقرب إلى ما نحن عليه اليوم. أنظر مثلاً إلى ما في قول عنترة بن شداد من نبل وشهامة ورفعة نفس حين يقول: وأَغُضُّ طرفي ما بدَتْ لي جارَتي.. حتى يُواري جارتي مأْواها.. حتى أبو جهل فإنه لم يكن يسمى بهذا الاسم لعلّة عقلية فيه، بل كان أيام الجاهلية من الشخصيات التي يؤخذ برأيها فهو «أبو الحكم» وأحد أعيان القبيلة، لكنه يظل بالنسبة للتعريف الإسلامي على جهالة لأن عقله لم يتسع لنور الإيمان.
من المعروف أن ذلك المجتمع كان يقوم على القبيلة والعائلة ويأتمر فيه الأفراد برأي قيادات قبيلتهم فيدخلون معها الحرب ويستمتعون معها بالسلم، كما يلخص ذلك البيت الشهير لدريد بن الصمة: ومَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ… غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ.
ويلخّص التماهي مع القبيلة ما حدث للحارث بن وعلة الشيباني الذي قتلت قبيلته أخاه، فأحس كأنه قد قتل نفسه أو شارك في قتل أخيه فلم يكن الانتقام ممكناً من ذات القبيلة، ما جعله يغرّد بأبيات وعبارات منها «فإذا رميت يصيبني سهمي»، إلا أنه، وفي الوقت ذاته، ورغم جميع حالات التماهي والتشابك بين الفرد والمجموع فإنه كان العصر الذي نشأ فيه شعر «المنصِفات» الذي تميز بخصوصية تميز أصحابه عن غيرهم بحديثهم ليس فقط عن انتمائهم لقبيلتهم وحبهم لها، بل عن قوة عدوهم وجلده.
تخبرنا المرويات الشعرية كيف لام عمربن معديكرب، أشجع قادة العرب، قبيلته بعد أن فر رجالها من ميدان القتال، كما تخبرنا أن قريط بن أنيف مدح قبيلة (بني مازن) التي تتميز بنصرة المظلوم على عكس قبيلته، التي لم تحرك ساكناً حين اعتدي على رجلها ، يقصد نفسه بعد أن أخذ العدو إبله، ولم تسع للنجدة بما يحقق العزة ويحفظ الكرامة…
ابن أنيف الذي حمله فقدان رأس ماله المتمثل في إبله على إعادة التفكير في منطق الولاء القبلي لم يكن وحيداً، بل تناثر أشخاص مثله على طول التاريخ عبّروا عن ضيقهم من ظلم ذوي القربى.
هنا يمكننا أن نرى أن العصر الجاهلي لم يكن بمجمله يتمثل كلمة دريد بن الصمة التي تلغي شخصية الفرد في سبيل المجموع، بل برز أشخاص تمت تسميتهم بالـ»منصفين» الذين لم يمنعهم حبهم لقبيلتهم من انتقاد نقاط الضعف فيها والانصاف في ذكر مواطن قوة الأعداء.. صحيح أنهم أقل عدداً وأن شهرتهم ليست بشهرة أقرانهم فربما لم يسمع الكثير منا بـ»عبد الشارق بن عبد العزى» أو «المُفَضّل النُّكْرِيّ» لكننا بالتأكيد سمعنا عن أمية بن أبي الصلت الذي كتب أبياتاً طويلة يحكي فيها عن قوة أعدائه من قبيل قوله في قصيدة شهيرة: وَشَيبُ الرأَسِ أَهوَنُ مِن لِقاهُم .. إِذا هَزّوا القَنا مُتقابِلينا.
والواقع أن بن أبي الصلت المعتز بقبيلته دائماً، الذي كان يعتبر من الأسماء الثقافية البارزة كشاعر مطبوع نابغ، لم يكن إنصافه ينبع من غضبه من قبيلته أو أهله بقدر ما كان فخراً بطريقة أخرى.. فإن قوتك تبرز أكثر حين تنتصر على خصم قوي، أما حين تقرر أن عدوك ضعيف وجبان ولا يملك قوة كافية فأنت تسيء إلى نفسك بشكل غير مباشر كمن يقارن سيفه بالعصا. سبب آخر هو أن اعترافك بمواطن القوة لدى الخصم أدعى لأخذ الحيطة وتوفير الاستعداد المناسب، مما يكفل تحقيق هدف المعركة النهائي وهو الانتصار.. هذا غير أنه يضفي جواً من الإثارة على مشهد المعركة، كما هو حال الشاعر عنترة بن شداد صاحب التصوير الأقرب إلى السينما حين يقول منصفاً خصمه: فلم أرَ حيّاً صَابَرُوا مِثْلَ صَبْرِنَا / وَلا كَافَحُوا مِثلَ الذينَ نُكَافِحُ
أو كقوله في القصيدة ذاتها: إذا أَقْبَلُوا في السَّابِغاتِ حَسِبتَهُم /سُيولاً إذَا جَاشَتْ بِهِنَّ الأبَاطحُ
رغم ذلك فقد ظل التماهي مع روح القبيلة هو الغالب قبل أن يأتي الإسلام، ليحرر الأفراد منه وليحيي النزعة الفردية مع احترام الجماعة والتمسك بها إن كانت على الحق.
الإسلام الذي علّم الثبات على الحق علم أهله أيضاً الفرق بين التهور والشجاعة، فلم يأذن بالقتال إلا بعد أصبح المؤمنون قادرين على إلحاق الهزيمة بأعدائهم فأوصاهم بالصبر على الأذى والتعذيب حتى حين. ويستمر الإنصاف القرآني فلا يكاد يذكر قصة عن الكفار إلا وهو يورد بعض ما تميزوا به من صفات خير قبل أن يؤكد على أن العداء ليس سبباً كافياً لسحب بساط العدل: «وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»، فوصف من انتصر عليهم المسلمون في بدر بـ»الملأ» أي السادة والأشراف، وهو ربما ما شجّع حسان بن ثابت على كتابة قصيدة توثق لذلك الحدث ولا تقلل من قوة أولئك الكفار المحاربين للإسلام.
تلك القراءة الهادئة والمتوازنة والموضوعية هي ما كان يميز العرب والمسلمين، الذين سرعان ما انخرطوا في فتوحات متعمقة بدأت بكسر شوكة الدول التي كانت أكثر تقدماً آنذاك، وعلى رأسهم الفرس الذين لم يكن قتالهم سهلاً وهم أصحاب الجيوش الأكثر خبرة ومهنية والأقوى تنظيماً. استمات الفرس في القتال وقد صمموا على تلقين أولئك العرب درساً قاسياً، وكان يوم «أُلَّيسٍ» الذي، من هوله، صلى فيه خالد بن الوليد، وهو من هو في الشجاعة، صلاة الخوف، كما صلى لما فتحها صلاة الفتح، ثماني ركعات لا يسلم فيهن، وقال عنها قولته المشهورة: «لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطعت في يدي تسعة أسياف، وما لقيت كقوم لقيتهم من أهل فارس، وما لقيت من أهل فارس قوما كأهل أليس». ولم يكن الانتصار على الفرس معركة واحدة ولا يوماً واحداً، بل توالت المعارك، وفي يوم «المقر»، المنطقة الفارسية المنيعة، يسمي عاصم بن عمرو – أخو القعقاع بن عمرو أحد أشهر قادة المسلمين وأشجعهم- الفرس ببني الأحرار، فيقول من ضمن ما قال معترفاً برباطة جأش أعدائه الفرس:
لقينا مِن بَني الأَحرارِ فيها /فوارِسَ ما يُريدونَ الفِرارا
في ذلك الوقت ورغم أن تلك المعارك كانت معارك مصيرية بالنسبة للإسلام وأهله، فإن أحداً لم يقم بإسكات الأصوات التي تشيد بقوة الخصم، أو التي تدعو إلى أخذ التجهيزات المادية اللازمة مع كل ما كان عند ذلك الجيل الفريد من الإيمان.
يمكننا أن نسترسل طويلاً في ذكر الأدبيات التي كتبها المسلمون، والتي تحكي عن قوة الفرس أو الروم، وعن تحصينات المدن الكبرى التي توجهوا إليها أو عن استبسال الأعداء في الدفاع عن أرضهم وعما يعتبرونه حقاً لهم. وهنا سؤال: كيف فقدنا تدريجياً هذا الأدب السامي وتلك الموضوعية الراقية في النظر إلى الأشياء، فأصبح الحديث عن العدو بأي قدر من الإيجابية خيانة وعمالة، والتحذير من حرب غير مدروسة شقاً للصف ونشراً للوهن، فأصبحنا لا نسمع في وسائل الإعلام وقت الحروب إلا أحاديث عن ضعف العدو وقوتنا وأننا دمرنا كل ما لديه من عتاد خلال لحظات، كما كانت تنشر الأخبار إبان هزيمة 67، بل إبان كل هزيمة..!

٭ كاتب سوداني

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    مقالة رائعة ومميزة يا دكتور مدى
    حبذا لو تسترسل بهذا الموضوع الشيق بالاسبوع القادم
    كنا نسمع دوما عن جبن اليهود ولهذا استصغرناهم لنهزم منهم شر هزيمة

    ولا حول ولا قوة الا بالله

اشترك في قائمتنا البريدية