أجمع معظم الخبراء والمحللين على أن الاتفاق الأخير الحاصل في باريس بين السراج وحفتر برعاية فرنسية هو جهد مرحب به بذل في سبيل استقرار ليبيا لكنه في كل الأحوال غير كاف ووجب أن تتبعه جهود أخرى. فبعض البنود العشرة لهذا الاتفاق تبدو صعبة التحقق في الوقت الراهن مثل ذلك المتعلق بوقف إطلاق النار وتفادي الصدام العسكري، باعتبار أن هناك أطرافا أخرى متصارعة على الميدان الليبي كانت غائبة عن هذا اللقاء ولا يسري عليها هذا الاتفاق ولا تخضع لإملاءات أي من الطرفين الموقعين.
كما أن تعهد المجتمعين في باريس بالعمل على تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية في أقرب وقت ممكن بدعم وإشراف الأمم المتحدة والتنسيق مع المؤسسات المعنية، يبدو التزاما هلاميا. فمن المفروض أن لكل اتفاق خريطة طريق وآجال محددة يتم ضبطها ثم تعديلها لاحقا حسب الظروف. فالاتفاق لم ينص على أجل لإجراء هذه الانتخابات، وبدت مبادرة السراج التي سبقت هذا اللقاء أكثر جدية باعتبارها حددت آجالا ووضعت خريطة طريق ونصت صراحة على ضرورة إتمام كتابة الدستور.
لذلك اعتبر البعض أن هذا الاتفاق الذي هرول إليه حفتر كما السراج لا يعدو أن يكون حملة علاقات عامة سعى إليها الإيليزيه لتلميع صورة الرئيس الفرنسي الشاب إيإيمانويل ماكرون. ولعل ما يدعم هذا الرأي هو التنصيص صراحة في البيان على أن «الاجتماع جاء بمبادرة من الرئيس الفرنسي إيإيمانويل ماكرون إسهاماً في حل الأزمة الليبية ودعما لجهود الاتحاد الافريقي والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية».
المستعمر السابق
والحقيقة أن فرنسا، المستعمر السابق للجنوب الليبي، لم تكن غائبة عن الملف الليبي منذ عملية الإطاحة بالقذافي، بل هي لاعب أساسي ومباشر. كما أن لباريس وكلاء في الملف الليبي منهم الرئيس التشادي إدريس ديبي والميليشيات السودانية الدارفورية الموالية له والتي كثر الحديث عن مشاركتها حفتر في كثير من المعارك التي خاضها سواء للسيطرة على النفط أو لمحاربة الإرهاب.
وبالتالي فإن فرنسا هي من الدول الداعمة لخليفة حفتر شأنها شأن روسيا ومصر والأردن والإمارات وكذا الولايات المتحدة التي تخضع لإرادتها أطراف أخرى تتصارع مع حفتر الأمر الذي جعلها تمسك بأهم الأوراق على الساحة الليبية. فليس مستغربا أن تنجح باريس في عقد هذا اللقاء خاصة وأن السراج لا يبدو بعيدا عن الحلف الأطلسي باعتبار ما عرف عن موالاته لإيطاليا، المستعمر السابق للشمال الليبي.
ويضيف البعض عاملا آخر ساهم في نجاح ماكرون في جمع الطرفين وهو تعيين اللبناني غسان سلامة على رأس البعثة الأممية لليبيا خلفا للألماني مارتن كوبلر. فقد عرف عن وزير الثقافة اللبناني الأسبق والأستاذ في جامعة السوربون علاقاته المتميزة مع باريس حتى اعتبر البعض أن منحه حقيبة الثقافة زمن الراحل رفيق الحريري كان بإيعاز من أطراف فرنسية نافذة على علاقة جيدة بالرئيس الحريري.
منافسة أطلسية
وكما التنافس الذي بات بين دول جوار ليبيا وبعض البلدان العربية على الحل في بلد عمر المختار، يبدو أن هناك تنافسا شبيها بات جليا في الآونة الأخيرة بين الجارتين الأطلسيتين فرنسا وإيطاليا وظهر ذلك في الخصوص في موقف السفارة الإيطالية في ليبيا من هذا الاجتماع. حيث نقل عنها، وتماهيا مع ما صرح به الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، ما مفاده أن «تحقيق استقرار طويل الأمد في ليبيا يحتاج إلى تحرك يفوق الجهود الفردية للدول والتحالفات الطوعية».
فهل أن ذهاب السراج، رجل روما في ليبيا، إلى باريس هو بداية القطيعة بينه وبين الإيطاليين ودخوله تحت المظلة الفرنسية؟ أم أن الأمر يتعلق بمناورة إيطالية لمعرفة ما يريده الطرف الفرنسي ومن ثم العمل لاحقا على إنجاز أمر ما يعيد الألق للدبلوماسية الإيطالية التي بدأت تفقد الكثير في ليبيا خاصة مع عدم استغلالها لتعيين الجنرال الإيطالي باولو سيرا مسؤولا عن الملف الأمني في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، للمساهمة في الحل؟
وتؤكد أطراف دبلوماسية نافذة ومطلعة على أن الاتصالات بين السراج والإيطاليين لم تنقطع قبل ذهابه إلى باريس وأثناء تواجده هناك وحتى بعد عودته. كما أن زيارة السراج إلى روما «الغاضبة» من تهميش باريس لدورها، مباشرة بعد لقاء باريس، يؤكد على أحد أمرين، إما أن السراج يتحرك بإملاءات إيطالية تفرض عليه أن يطلعهم على تطورات ما حصل في باريس، وهو ما تؤكده المسارعة في الزيارة، أو أنه ذاهب لإصلاح ذات البين بعد أن شعر بحجم الأزمة الداخلية في روما بعد هذا اللقاء الذي أصبح مادة دسمة لتهجم المعارضة الإيطالية على رئيس الحكومة باولو جينتيلوني ووزير خارجيته واتهامهما بالتقصير.
لقد بات جليا إثر هذه «الأزمة» الفرنسية الإيطالية بشأن ليبيا أن المصالح القطرية أهم بكثير من التحالفات السياسية والاقتصادية لدى هذين القطبين الأوروبيين. فقد نسي الإيطاليون والفرنسيون على ما يبدو أنهم أعضاء في اتحاد كونفدرالي إسمه الاتحاد الأوروبي، وأنهم بمعية شركاء آخرين وحدوا العملة وتعاهدوا على المضي قدما في دعم هذا البناء. فقد أسال النفط الليبي لعاب الجارتين الأوروبيتين حتى باتت جهود هذا الطرف في التقريب بين الفرقاء الليبيين تثير انزعاج الطرف الآخر وتثير الأزمات الداخلية، وبات كل طرف يرغب في الاستفراد بالملف الليبي.
على خطى الصخيرات
إن من أسباب فشل اتفاق الصخيرات في الوصول بليبيا إلى بر الأمان هو عدم تشريك ممثلين عن جميع الليبيين، واقتصار الأمر على بعض المكونات دون سواها. ويبدو أن الأمر يتكرر مع اتفاق باريس الأخير والذي اختزل ليبيا في حفتر والسراج وما يمثلانه دون أن يطال التمثيل أطرافا هامة فاعلة ومؤثرة في المشهد الليبي قبل الإطاحة بالقذافي وبعد الإطاحة به.
فالأطراف الغائبة والمشار إليها غير معنية باتفاق باريس ولا بما توصل حفتر والسراج برعاية الرئيس الفرنسي ولا يمكن لأحد أن يلوم هذه الأطراف على عدم الالتزام بما ورد فيه. وبالتالي فقد ولد اتفاق باريس ميتا على غرار اتفاق الصخيرات الذي صرفت لأجله أموال طائلة ونال الكثير من جهد الليبيين وحلفائهم الإقليميين والدوليين، كما نال تغطية إعلامية واسعة ومنقطعة النظير وفي النهاية خرج منه الليبيون بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها.
وللإشارة فإن اتفاق الصخيرات ليس الوحيد الذي جمع أطرافا ليبية، فقد حصل اتفاق في تونس لم يجد طريقه إلى التنفيذ، وحصل اتفاق آخر في الإمارات وفي غيرها. وبالتالي فإن اتفاق باريس، وحسب كثير من الخبراء والمحللين، سيكون رقما في سجل الاتفاقيات الليبية لحل الأزمة والتي يصعب تنفيذها. لكن لقاء باريس وما تمخض عنه، ورغم كل هناته، أثبت أن الغرب أنهى مرحلة التدمير للدولة الليبية ودخل جديا في مرحلة البحث عن الاستقرار وإعادة الإعمار ليغنم من ريع ثروات ليبيا وهو أمر على درجة كبيرة من الأهمية.
ماجد البرهومي