تعتقد قطاعات واسعة من سكان البصرة ومحافظات جنوب ووسط العراق، انها قدمت المزيد من التضحيات في الانتفاضة التي أعقبت انسحاب الجيش العراقي من الكويت عام 1991، وفي المعارك التي خاضتها القوات الأمنية والحشد الشعبي ضد تنظيم «الدولة» في المحافظات السُنّية بعد أحداث الموصل 2014.
ويسود شعور عام بأن الثروات النفطية في جنوب العراق، والايرادات الهائلة منذ فترة ما بعد الاحتلال، لم تساهم في تحسين الوضع المعاشي وتقديم الخدمات الأساسية كاستحقاق لهم على السلطة التنفيذية، إلى جانب تعويضهم عن التضحيات التي قدمها أبناء تلك المحافظات عام 1991 التي مهدّت لسقوط نظام صدام حسين وتولي الشيعة الحكم في العراق، أو ما بعد 2014 التي ساهمت في منع سقوط سلطة الأحزاب الشيعية المهيمنة على القرار والثروات.
وإذا كانت الاحتجاجات التي تشهدها تسع محافظات في وسط وجنوب العراق في عمومها «مطلبية» يقوم عليها محتجون سبق ان شاركوا في انتخابات أيار/مايو الماضي، فان هذا لا يعني غياب بعدها السياسي في ظل أزمة تشكيل الحكومة الجديدة وسط تجاذبات إقليمية ودولية للفوز بالعراق على قاعدة التنافس بين محور الولايات المتحدة والمحور الإيراني، والبعد المحلي في التنافس على تشكيل الحكومة الجديدة.
ويعطي العرب السُنّة والأكراد في مرحلة الإعداد لتشكيل الحكومة الجديدة أهمية قصوى لتجنب تشكيلها بعيدا عن التفاهم معهم، ويواصلون عقد المقاربات لتفضيل الانضمام إلى أحد التحالفات الشيعية على أمل عدم تهميشهم أو حرمانهم من استحقاقاتهم والفوز بحقائب وزارية وفق استحقاق توزيع الحصص على أسس التفاهمات المعمول بها بما يسمى المحاصصة السياسية، وهو ما يُبعدهم بعض الشيء عن التفكير في إطلاق احتجاجات مماثلة في محافظاتهم.
لكن لا تزال معطيات انخراط العرب السُنّة والأكراد في الاحتجاجات غير متوفرة، بل على العكس هناك ما يُشبه حالة الرفض لدى العرب السُنّة لتكرار الخروج إلى الشوارع والساحات على شاكلة ما جرى طيلة عام 2013.
وسبق لكتل سياسية، مثل التيار الصدري، ان نظمت احتجاجات خلال الأعوام الثلاثة الماضية في العاصمة ومحافظات وسط وجنوب العراق، لكنّها غالبا ما انتهت بتفاهمات بين رئيس التيار والحكومة المركزية دون تحقيق مطالب المحتجين.
واحتجاجا على الفساد وتدني مستوى الخدمات ضمن إطار حركة مطلبية قادها التيار الصدري لاجتثاث الفساد والشروع بعملية إصلاح سياسي جذري، اقتحم محتجون غاضبون مبنى البرلمان العراقي في المجمع الحكومي وسفارات الدول الأجنبية في المنطقة الخضراء عام 2016، لكن الحكومة المركزية لم تف بوعودها لزعيم التيار، أو ان الاحتجاجات انتهت ضمن تفاهمات جانبية بين رئيس الوزراء وزعيم التيار الصدري.
لذلك «قد» لا يعوّل العرب السُنّة كثيرا على الاحتجاجات الراهنة حتى وان بدا واضحا عدم صلتها بالتيار الصدري المعروف لدى معظم المحتجين الآن بتمييعه مطالبهم والاستثمار في الاحتجاجات السابقة لمكاسب سياسية حزبية ضيقة حقق من خلالها تقدما واضحا في انتخابات أيار/مايو الماضي كعامل من بين عوامل عدة ساهمت بتحقيق ذلك.
من المستبعد انضمام المحافظات السُنّية إلى الاحتجاجات الراهنة ما لم تتصاعد حدتها وتتحول إلى مواجهات واسعة بين المحتجين والقوات الأمنية تهدد وجود النظام السياسي القائم حيث سيكون على قياداتهم الانخراط الفعلي فيها لضمان دورهم في العملية الانتقالية المفترضة. أما في هذه المرحلة، فتخشى قيادات المجتمع السُنّي من الدخول المبكر في الاحتجاجات لتجنب الاتهامات التي «قد» توجهها الحكومة المركزية والأحزاب الشيعية باستغلال احتجاجات محافظات الوسط والجنوب لتقويض العملية السياسية وتحقيق مكاسب ذات طابع «طائفي».
على خلاف المحتجين السُنّة الذين أمضوا عاما كاملا، تعرضت ممتلكات عامة وخاصة خلال هذه الاحتجاجات إلى عمليات «تخريب» لا أحد يستطيع الجزم بالجهات التي تقف خلفها وهوية منفذي الاعتداءات سواء من محتجين غاضبين أو عناصر اخترقت صفوفهم لأهداف معينة. وتتعامل الحكومة المركزية مع الذين يرتكبون أعمالا تخريبية في الممتلكات العامة والخاصة على انهم «مندسون» ومع ان القوات الأمنية وفصائل الحشد الشعبي تعاملت مع هؤلاء باستخدام القوة التي أدت إلى مقتل وإصابة العشرات واعتقال المئات، إلا انه لا أحد من السياسيين أو المراجع الدينية اتهمهم بـ «الإرهاب» كالاتهامات التي وجهت للمحتجين السُنّة عام 2013 والتي تسببت في اقتحام مخيماتهم بالدبابات واحراقها وقتل العشرات منهم في أكثر من ساحة اعتصام.
خلال الأيام التسعة الأولى من الاحتجاجات قُتل ما بين 11 و19 شخصا، بينهم عناصر أمنية، وأصيب العشرات وتم اعتقال أكثر من 450 آخرين (آخر أرقام رسمية منشورة) من المحتجين، كما ان أكثر من 30 مبنى حكوميا ومدنيا تعرضت لأضرار مادية نتيجة اقتحام المحتجين واحراق البعض منها.
ويرفض المحتجون الاتهامات التي تطلقها الحكومة المركزية بوجود «مندسين» في صفوفهم أو الاتهامات الأخرى التي تسوقها الأحزاب السياسية والدينية وقيادات الحشد الشعبي بوجود أدوار معينة في تحريك المحتجين بهذا التوقيت، سواء للبعثيين أو الولايات المتحدة أو السعودية وغيرها.
ومع تعدد أسباب التظاهر والاحتجاج في مناطق العراق المختلفة طائفيا وعرقيا، لم تتدخل المحافظات الشيعية أثناء احتجاجات المحافظات السُنّية عام 2013، كما ان المحافظات السُنّية لم تتدخل إلى جانب المحتجين، أو تخرج باحتجاجات لمؤازرتهم في مرات عدة شهدت فيها العاصمة ومحافظات شيعية تظاهرات واحتجاجات متكررة منذ عام 2008 في البصرة وما أعقبها من احتجاجات مماثلة عادة ما تقف خلفها أحزاب سياسية شيعية.
تعكس مطالب الحركة الاحتجاجية في معظمها معاناة السكان في تلك المحافظات جراء تدني مستوى الأداء الحكومي في الخدمات الأساسية وتحسين المستوى المعيشي وتوفير فرص العمل ومكافحة الفساد، وهي ذات ما تعانيه المحافظات الكردية والسُنّية.
ومع ان المطالب التي سبق أن أعلن عنها المحتجون السُنّة عام 2013، عامة غير مناطقية أو مكوناتية، وهي إلى حد ما منسجمة مع مطالب المحتجين الشيعة هذه الأيام، لكنها لم تجد حينئذ تأييدا من المرجعيات الدينية أو الكتل والأحزاب الشيعية مقارنة بالاحتجاجات الشيعية التي لم يتم توجيه أي انتقاد لها من قبلهم، والاجماع على مشروعيتها وأحقية المحتجين في التظاهر لتحقيق مطالبهم، مع انها هي الأخرى خرجت خلافا للقانون العراقي الذي يفرض على منظميها استحصال الموافقات الأصولية المسبقة من وزارة الداخلية أو الحكومات المحلية.
ويخشى سياسيون سُنّة من المشاركة في الاحتجاجات التي تشهدها المحافظات الجنوبية من اتهامهم بـ «الإرهاب» لذلك ليس من المتوقع تنظيم احتجاجات مماثلة مع واقع تدهور عام في الخدمات الأساسية والفساد في الجهاز الحكومي وعوامل أخرى هي ذاتها التي دفعت لخروج محافظات وسط وجنوب العراق. وتخضع معظم المدن السُنّية التي استعادتها القوات الأمنية لسيطرة فصائل الحشد الشعبي على الملف الأمني فيها؛ ويمكن ان يكون هذا عاملا مضافا من عوامل الاحجام السُنّي عن الانخراط في الاحتجاجات التي يمكن ان تؤدي إلى حالات قمع أمني تنفذها تلك الفصائل للحفاظ على الأمن والاستقرار في هذه المناطق بذريعة الخشية من استغلالها من قبل تنظيم «الدولة» الذي سبق للحكومة المركزية ان اتهمت الاحتجاجات السُنّية بتهيئة الأرض لعودة التنظيم واستيلاءه على الموصل ومدن أخرى.
11HAD
رائد الحامد