استثمار الهجمات الإرهابية لتحجيم مسلمي فرنسا

سيبقى يوم الجمعة الدامي تاريخا يتذكره الفرنسيون ولن ينسوه لسرعة تنفيذه والإرباك الأمني الذي اعتراه وحجم الضحايا الذي يزيد عن المئة وثلاثين شخصا، فضلا عن الجرحى، ما أحدث صدمة كبيرة، رغم أن هناك تهديدات سابقة من «داعش» ضد الدول التي تهاجم قواعدها في سوريا والعراق.
فبعد أن تدخلت روسيا في سوريا وبدأت طائراتها تقصف مواقع «تنظيم الدولة» أسقط أنصار ذلك التنظيم الطائرة المدنية الروسية. وعندما استمر تدخل «حزب الله» اللبناني لمناصرة النظام الديكتاتوري السوري هوجمت ضاحية بيروت الجنوبية. وعلى المنوال نفسه ضرب الارهاب باريس لتدخل الطيران الفرنسي في سوريا وقصفه مواقع «داعش». هكذا بدأت أصوات الحرب تتعالى بشدة لدى الأوساط الفرنسية والغربية للقضاء التام على «داعش» في كل من سوريا والعراق. ما غاب عن الاذهان دور إدارة الحكومتين العراقية والسورية في انعاش الإرهاب ومنظماته، فقد بات من المؤكد للمسلمين الفرنسيين بان السلطات السياسية في هذا البلد تحاول استثمار هذه الهجمات الإرهابية لاسباب ودواع انتخابية محضة، ولا تتورع عن استخدام وسائل عنصرية وفق مبدأ الكيل بمكيالين او استخدام أساليب منافقة لذر الرماد في العيون. فمن جهة يصف رئيس الوزراء الفرنسي الإسلام ظلما وعدوانا بالفاشية، وفي الوقت نفسه يقول بان فرنسا ترفض الخلط بين الإرهابيين والمسلمين. في حين تؤكد الحقائق المعاشة والملموسة كذب ادعاء الحكومة بالفصل بين منفذي الهجمات الإرهابية ومناصريهم من جهة، وبين عموم الجالية المسلمة المسالمة في فرنسا من جهة اخرى. ضمن برنامج تلفزيوني شاهده الملايين على القناة الوطنية الفرنسية الثانية سمعنا كلام وزير الداخلية الذي استخدم في حديثه عن الجالية سياسة العصا والجزرة، لكن الأجواء المحيطة بصالة عرض البرنامج توحي برسم انطباع خطير لدى المشاهد الفرنسي لاستخلاص نتيجة مفادها أن الإسلام هو الإرهاب ذاته. فما بين الفينة والأخرى نشاهد على الشاشة الصغيرة صورا مباشرة عن القرآن الكريم وبعض كتب الأحاديث النبوية الشريفة، وصورة أخرى تمثل كلمة لا اله الا الله محمد رسول الله وتحتها صورة سيف. ليس هناك أي مجال للشك بان الهدف الأساسي من هذه البرامج تنمية الحقد والكراهية ضد الجالية الاسلامية. ان فحوى الرسالة اذن يقول بأن مشكلة فرنسا مع المسلمين عقائدية تكمن في صورة ذلك السيف الذي يعبر عن قطع الرؤوس، اما الشهادة وكتب القرآن والسنة المطهرة فهي التي تحرض على الارهاب، ان اعتراضنا على هذه الأساليب المستهجنة مبدأي، لأن الإسلام دين سلام ومحبة وتعاون ورحمة للجميع. وسياسي ايضا لأن أحدا من العرب والمسلمين لم ينعت الاستعمار الفرنسي يوما بالاستعمار المسيحي ضد المسلمين. وعندما ينتهك الجيش والمستوطنون الإسرائيليون حرمات الشعب الفلسطيني الأعزل يوميا، لم يقل أحد من المسلمين إن الدين اليهودي هو الذي يحثهم على ارتكاب تلك الجرائم. وفي الحالتين لم يتحدث أي مسلم ضد الديانتين السماويتين اليهودية والنصرانية. لقد تمكن الإعلام الفرنسي والغربي من تشكيك المسلمين انفسهم بدينهم، مما يثير علامات استفهام كبيرة حول ضرورة الالتفات إلى ثقافتنا والجرأة في الانتقاد والمجادلة في المقدسات، سواء كانت القرآن الكريم او السنة النبوية. لقد فشلت سياسية تكميم الافواه تحت حجج الحلال والحرام، علينا ان نرتقي لشرح ديننا بدون خوف او وجل، لان الكثير من السائلين، سواء كانوا يهودا او نصارى او علمانيين او ملحدين، يهمهم معرفة الحقائق، فعندما يروا آيات القتال الكثيرة في القرآن الكريم يتبادر الى أذهانهم أن الإسلام دين قتال دائم ضد اعدائه القدامى والجدد بدون تمييز. وعندما تنتقد بعض الآيات القرآنية اليهود والنصارى يتصور القارئ أن الإسلام يرفض الآخر المخالف لدينه. لقد استغل بعض الحاقدين هذه الايات لتشويه الإسلام وكان علينا ان نشرح ونفسر ونعطي الصورة الكاملة لهذا الدين. فسور القتال كانت ضمن واقع تاريخي معين كان المسلمون آنذاك بحاجة الى الصمود والمقاومة امام قريش التي تريد استئصالهم بالكلية. ولو رجعنا الى التوراة والإنجيل لوجدنا فيها أيضا الكثير من آيات العنف الصادمة. اما الآيات المتعلقة بأهل الكتاب فبعضها آيات مدح وتشريف وبعضها الاخر آيات تقريع وانتقاد وتهديد، شأنها في ذلك شان الآيات القرآنية الكثيرة التي تهدد وتقرع وتنتقد المسلمين انفسهم. فالأمر ليس كما يتصورون، لأن القرآن الكريم يحارب الشر من أي طرف صدر ويحث على الخير ويجازي به بدون استئثار لاحد. هنا تكمن خطورة السياسة الإعلامية الرسمية الفرنسية تجاه المسلمين لانهم وببساطة يحرفون الكلم عن مواضعه ويأخذون بعض الآيات ويهملون الأخرى عامدين متعمدين. يطالب بعضهم أيضا ان يذوب المسلمون في المجتمع الفرنسي وحدهم دون غيرهم. فيهملون هويتهم ودينهم ويلبسون ويأكلون ويشربون مثل الاخرين، لكي يكونوا مواطنين ويحصلوا على شهادة حسن السلوك من السلطات المعنية. ان الطبقة السياسية الكلاسيكية في نهاية المطاف ترفض الواقع الديمغرافي السكاني الجديد الذي اضحى امرا لا مفر منه، ولا بد من الاعتراف به. كما ان الجيل الأول من المسلمين الذي وصل بطلب من فرنسا منذ منتصف القرن الماضي من ديارهم الاصلية لبناء وإعمار فرنسا باقون ولن يعودوا لبلادهم واضحى أولادهم واحفادهم فرنسيون ليس من الانصاف والأخلاق ان تعمل السلطات الفرنسية على تغيير مسار حرب سياسية عسكرية بين تنظيم الدولة الإسلامية الذي هاجم مواطنين أبرياء في باريس، بعد ان هاجمت المقاتلات الفرنسية هي الأخرى قواعد له، الى حرب عقائدية ضد طائفة اصيلة ومهمة من الشعب الفرنسي لانهم يدينون بالإسلام. من المعلوم ايضا أن دين مسلمي فرنسا يحتم عليهم احترام الدستور الفرنسي ونظامه الجمهوري لان مجرد دخولهم هذه الأرض هو بمثابة موافقة لقوانينها الرسمية. فالمسلم لا يخلف العهد والوعد الذي قطعه على نفسه اثر استقراره. كما ان المسلمين يجدون انفسهم في توافق بين مبادئ دينهم العالمية المتعلقة بالعدالة والمساواة والتعاون الاجتماعي ومبادئ الجمهورية حرية مساواة عدالة. من الوضاعة ان يستغل الاعلام الفرنسي ضعف المسلمين في تشويه دينهم من قبل السلطات الفرنسية في كل مرة منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي حتى الان. فكلما اقترب استحقاق انتخابي معين بدأت الأحزاب السياسية الحاكمة البحث عن استغلال أي فرصة ضد الجالية كونها الخاصرة الضعيفة التي لا يدافع عنها احد. من جانب آخر ليعلم المتعصبون أن التاريخ لا يعود الى الوراء ومن صالح جميع أطياف الشعب الفرنسي التعاون المشترك لبناء وطن عادل، وان المفهوم العنصري الاستعماري المتعصب القاضي بإمكانية استمرار فرض معادلة أساسها ان الجنس الأبيض الأوروبي الامريكي هو جنس متحضر وذكي، وان الجنس العربي الإسلامي متخلف وغبي معادلة قد ماتت، ولا يمكن ان تعود اليها الحياة مرة أخرى. وينبغي التعامل اليوم وفق مبدأ الند للند. من المعروف ان أغلب مسلمي فرنسا مثقفون راشدون متعلمون وهم جزء لا يتجزأ من المجتمع الفرنسي ساهموا في بناء بلدهم والتزموا بواجباتهم بدون تقصير، فلا بد لهم إذن ان يحصلوا على حقوقهم ولعل أهمها احترام معتقداتهم الدينية والحضارية.

٭ كاتب عراقي

نصيف الجبوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية