ينحو الدارسون إلى اعتبار الأديب الألماني الشهير غوته صاحب هذا المفهوم «الأدب العالمي» وعَنَى به «ذلك الأدب العالمي الذي لا يعرف حــــدا للأمم والذي يمكن اعتباره جزءاً من تراث الإنسانية بأسرها، فيساعد الآداب الوطنية على الازدهار والتطور باستيحاء الأساليب والموضوعات من هذا المنبع العام».
وهذا واضح في ديوانه الشعري الشهير «الديوان الشرقي لمؤلفه الغربي» والذي استوحى فيه التراث الشعري العربي القديم، كما استوحى فيه الشعر الفارسي وخاصة شعر حافظ الشيرازي. وقد تميز غوته في كل ما كتبه شعرا ونثرا بتفكيره الشامل العالمي وهو التفكير الذي جعله يرى في آداب الأمم الأخرى منابع هامة للإبداع ينبغي النهل منها، ولذا سما أدبه على ما قبله من الآداب الألمانية بل والأوروبية ليصل في كل ذلك إلى مرتبة العالمية.
لقد أضحى أدب غوته تراثا إنسانيا مشاعا بين كل محبي الآداب في مختلف أصقاع العالم، بيد أن مثقفي ما بعد غوته، وخاصة في هذا الزمن الذي نعيش أيامه الملطخة بالحروب والصراعات القذرة، يرون إلى الأدب العالمي من منظور «الغَلَبَةِ» باصطلاح ابن خلدون. إن الأقوى في العالم هو من يقرر- أيضا- ما هو الأدب العالمي وما ليس بذلك، والحال أن الأدب مؤسسة تختلف عن باقي المؤسسات السياسية المتحكمة في الحياة العامة للناس. إن الأدب مؤسسة حرة، يعمل فيها الأدباء بالحرية التي يريدون ويحلمون ويتوقون إلى تحقيقها في حياة الناس وفي كل مكان، إنها مؤسسة حرة تنافح عن الحرية باستماتة. وإذا كان إدوارد سعيد قد ربط بين الثقافة والامبريالية وكشف عما يتخفى في أعطاف الثقافة ومنها الثقافة الأدبية، فإن الشعوب المستعمَرَة سابقا قد هيأت أبناءها للإحساس العميق بخطر الثقافة الامبريالية، في الوقت الذي أضحى فيه هؤلاء المثقفون الذين ينتمون إلى هذه البلدان الحرة يتطلعون مع شعوبهم إلى العدالة أو الحق في التطور الحضاري، ما زلنا نجد من يروج بيننا، في هذه الأوطان العربية، لمعايير الأدب العالمي بالمنظور الامبريالي القديم الذي تصدى له إدوارد سعيد، فالكثيرون يفهمون الأدب العالمي باعتباره آداب الأمم الراقية المسيطرة على السياسة الدولية، أو آداب اللغة المهيمنة في الأوساط السياسية والثقافية. إن الأدب العالمي، كما كان، وكما ينبغي ان يكون، هو ذاك النابع من القيم الإنسانية المتفق عليها في ثقافات الأمم كلها باعتبارها قيما تعلو بالإنسان في سماوات الروح الإنسانية الخالدة الحالمة على الدوام بالحرية وبفضائل هذه الحرية في ممارسة الحياة وعيشها، ولقد استطاعت الآداب الإنسانية الحديثة والمعاصرة الكشف عما يحياه الإنسان وما يتوق إليه في هذه الحياة بل وما ينشده من الثقافة التي يتعاطاها ويتداولها. وإذا كانت الصراعات الإنسانية تظهر وحشيةَ الإنسان وشَبَهَهُ بالإنسان القديم-إنسان الكهف، فإن الأدباء الذين يؤسسون الأدبَ العالمي الجديد هم أولئك الذين ينافحون في أدبهم عن إنسانية الإنسان، خاصة وأن هذه الإنسانية قد أصبحت مهدورة في كل مكان من هذا العالم الكبير والصغير في آن. ولعل هذا وحده ما يجعلنا نفهم الأدب العالمي باعتباره ذاك الذي يستحق ولوج أراضي التراث الإنساني كله، كيفما كان، وبأي لغة كانت- ومنها اللغة العربية.
إن آداب اللغة العربية التي تؤسس لعالم جديد مفعم بالأحلام القابلة للتحقيق، أو الأحلام التي تراود مخيلة الإنسان العربي وتبث فيه حيوية وقوة النظر إلى المستقبل القريب والبعيد على السواء هي الأدب الحقيقي، وما لم نحلم لن نستمر في الحياة، ما دامت الأحلام قدر الإنسان وخاصة المهزوم أو المخذول أو المغدور. أدبنا هو حياتنا وحياتنا بأيدينا. فهل نستطيع الحياة وهل نستطيع الحلم بالحياة التي نريد؟ وإن فهما لا يرى الأدب العالمي إلا في ذاك الأدب المكتوب بغير العربية، هو فهم ينطوي على شعور كامن بالدونية إزاء الآخر (الغربي المتقدم).
آدابنا العربية – أقصد الرصينة ذات القيمة العالية من منظور النقد الأدبي المحلي كما من النقد الأدبي المقارن- أقول آدابنا العربية المفعمة بالقوة والحيوية والخصوبة بلغت إلى العالمية، ولا أساس في الفهم النقدي أو التاريخي الذي يربط بين الأحوال السياسية وأحوال الأدب، فقد يكون الوضع في السياسة غير ما هو عليه في الأدب. ان نهضتنا الحديثة – إن اتفقنا على تسميتها نهضة – هي نهضة أدبية فكرية أكثر من أي شيء- من أي نهوض سياسي أو اجتماعي، وتاريخ الشعوب في العالم، ترينا أن شعبا- مثل ألمانيا- كان متأخرا سياسيا، متقدما فكريا أدبيا في مرحلة من مراحل تاريخ ألمانيا. وإذا كنا نخوض الصراع في عالمنا مع كل ما يمنعنا من الحياة الحرة السعيدة، فإن الأدب العربي، خاصة ما بلغ منه قيمة العالمية، يستطيع أن يعيد لنا ما نصبو إليه من أحلام تكاد تتحقق أو ممكنة التحقق مستقبلا. ولن نستطيع تحقيق ما نحلم به إلا إذا وضعنا تاريخا مختلفا للأدب العالمي ولمفهوم الأدب ذاته. إن أدبا يعنينا في الحياة التي نحيا ويشاركنا هذه الحياة هو أدب عالمي- بأي لغة كان، فواضع هذا المفهوم، منذ وضعه أول مرة قَصَدَ به كل أدب يستحق تصنيفه ضمن (تراث الإنسانية)، والإنسانية تتشارك إنسانيتها فيما تعيشه أو فيما تتطلع إلى عيشه، إذ الإنسان هو الكائن الأكثر طموحا وتطلعا من الكائنات الأخرى، هذه التطلعات إلى حياة أفضل بالتحسيس بالحياة الكائنة وما يشوبها من آلام ومحن ومعاناة يصبو الإنسان إلى تجاوزها ليحيا الحياة التي يريد، هي ما يميز دائما الأدب العالمي. لقد تحدث غوته عن ازدهار الآداب الوطنية حالما تتلاقح مع الأدب العالمي وتستوحي منه الأساليب والموضوعات وهذا هو حال الأدب العربي المعاصر عند أعلامه الكبار الذين نهلوا من الأساليب الفنية ما جددوا به هذا الأدب في شعره ونثـــره، وبلغوا به الذروة في هذا التجديد وإن كانت هذه الذروة لا تعني النهاية بل لعلها تعني المزيد من استرفاد القيم الجمالية الرفيعة التي تبث الحيوية والقوة في الأدب بما يستهوي النفوس والعقول وبــما يحمل من متعة ولذة لقارئيه.
لقد أضحى العالم الآن كالمبنى الزجاجي يرى ساكنوه ما في خارجه كما يرى الجيران ما في داخله. إن الحياة الإنسانية في تحول، بيد أن هذا التحول لا يعفينا من الاهتمام بهويتنا وبالعمل على ازدهارها، ففي الوقت الذي يتحدث الناس عن العولمة تزداد الحركات العنصرية نشاطا وتمييزا بين البشر، بتلك النظرية المبتذلة التي تصنف الناس إلى (فوق) و(تحت) لا لشيء إلا لانتماءاتهم الوطنية أو العرقية. وقد يكون أدبنا العالمي مما يعرف بنا، إذا لم تعرف بنا الدبلوماسية السياسية. ولن يكون هذا إلا إذا وثقنا مما بأيدينا من أدب عربي إنساني قوي يصح إدراجه في الأدب العالمي، وهو حتما ليس (أدب الهروب) الذي يحاول أن ينسي القارئ هموم حياته، ولا هو ذاك الأدب المجنح الذي لا علاقة له بالحياة. لقد كان الأدب العالمي أدب الحياة الإنسانية وهو إلى الآن كذلك، هو ذاك الذي ينطوي على الرفعة الإنسانية بالقيم الجمالية والإنسانية التي يتسم بها، وهنا تكمن رفعته وبالأخص رفعته الجمالية المتصلة بالقيم الإنسانية. لقد كانت الآداب الرفيعة قديما، هي تلك التي تعرض الجمال وتظهر القدرة على تنمية الذوق، لا لما تقرره من حقائق أو ما تنقله من معارف أو ما تحققه من فوائد عملية. أما الآن فالآداب الرفيعة هي التي تجمع بين القيم الجمالية والإنسانية- وهذه في تغير وتبدل وتطور ما دامت الحياة الإنسانية تتغير وتتبدل وتتطور. بيد أن كل هذه التغيرات والتبدلات والتطورات لا تنسينا ما هو أبدي مشترك في الحياة الإنسانية كلها مذ كانت هذه الحياة، أعني قيمة القيم وهي الحرية. والحرية هي التي تجعل صاحبها يحس بالمسؤولية ويجعل الآخرين يحسون معه، في أدبه، بهذه المسؤولية. ولعلنا، في آدابنا العربية أكثر الناس إحساسا بمسؤوليتنا إزاء الحياة التي نعيش، سواء منها الحياة التي نرضاها أم تلك التي نسخط منها، والمسؤولية ذاتها هي التي تجعلنا نولي القيمة لذاتنا، قيمة الثقة بهذا التراث الأدبي الذي نملك والذي يستحق منا العناية بالقــــراءة والتمثل للقيم الجمالية والإنسانية فيما نحيا وفي الحياة التي نريد أن نحياها.
كتب الإيطالي- أستاذ الأدب المقارن أرماندو نيشي كتابا تحت هذا العنوان «تاريخ مختلف للأدب العالمي» قام بترجمته حسين محمود وصدر ضمن سلسلة منشورات «المشـــــروع القومي للترجمة» وهو كتاب يستحق الالتفات إليه ومحاورته لأنه يقدم تصورات جديدة حول الأدب العالمي.
٭ قاص وناقد مغربي
عبداللطيف الزكري