بأي معنى يمكننا أن نتحدث عن التسامح في الوسط الإسلامي؟
باختياري لهذا العنوان الطويل نسبياً، ولكن المخفف والدقيق جداً، فإنني أردت أن أقوم برد فعل ضد اتجاه شائع جداً يتمثل عادة بإقامة مواجهة ميكانيكية بين الإسلام والغرب بخصوص كل المفاهيم التقليدية أو الحديثة: كمفهوم حقوق الإنسان، ومفهوم الحرية الدينية، ومفهوم الديمقراطية، ومفهوم الشخص البشري، إلخ.
إن الدعوة إلى التسامح قد أصبحت ملحة وشائعة في مجتمعاتنا الخاضعة لصراعات عرقية ـ ثقافية، أو طائفية، أو سياسية. ويزيد من تفاقم هذه الصراعات تلك الموجات المتدفقة من الهجرة عبر أصقاع الكوكب الأرضي كله. وضمن مثل هذا الجو من الصراعات المتأزمة يميل الناس بالطبع إلى أن يتجهوا بأبصارهم نحو التراثات الفكرية الراسخة لكي يعثروا فيها على أسس تحترم هذا المفهوم (أي مفهوم التسامح) وتبرره. ونحن لا نعلم فيما إذا كان هذا المفهوم يعني فضيلة أخلاقية أو وازعاً فكرياً أو يلبي حاجة سياسية ما، داخل المجتمعات المتعددة الأجناس والطوائف.
بالطبع فإن الفكر الأوروبي لا يتردد في ربط منشأ التسامح بصعود فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر، ثم بشكل عام، بنهوض الحداثة المادية والفكرية في الغرب. وهكذا يصبح من السهل التدليل على فكرة أن الحداثة قد انبثقت للمرة الأولى في أوروبا الغربية عن طريق ضرب فكرة التسامح كمثل على ذلك. فالمعركة التي خاضها فولتير من خلال رسالته في «التسامح»، (1763)، وكتابات جماعة الموسوعيين قد غيرت بالفعل من تلك النظرة الخاصة إلى الأديان بما فيها الدين المسيحي نفسه. بل وقد وصل الأمر بفلاسفة القرن الثامن عشر إلى حدّ استخدام الإسلام كمثال على التعصب وعدم التسامح (أنظر كتاب فولتير: «التعصب أو محمد النبي»، 1741). ويلاحظ أن جملة التصورات السلبية المشكّلة عن الإسلام في القرن الثامن عشر قد نُشّطت من جديد الآن وأصبحت ملائمة جداً للمتخيل النضالي الغربي. فقد أصبح هذا المتخيل مستثاراً وحامياً تجاه كل ما يخص الإسلام، وراح يتغذى ويزداد ضراوة بسبب اندلاع حركات التحرر الوطني المضادة للاستعمار منذ الخمسينات، وبسبب الانتفاضات والتظاهرات والثورات والأعمال العنيفة الصاخبة التي تجري في أرض الإسلام.
ولا يمكننا أن نتجاهل كل هذه المعطيات عندما نريد أن نتصدى ـ كمؤرخين نقديين ـ لدراسة مسألة التسامح في البيئة الإسلامية أو في الوسط الإسلامي. فإذا ما أردنا أن نتحاشى في الوقت ذاته المغالطات التاريخية السهلة والمبالغات التبجيلية التي يستخدمها المسلمون للرد على تلك التصورات الاتهامية والاحتقارية الغربية، فإنه ينبغي علينا أن نقوم بالمجريات التالية:
1 ـ معرفة بأي معنى نستخدم مصطلح التسامح عندما نحاول أن ندرس كيفية انبثاقه وآلية اشتغاله ضمن أوساط اجتماعية ـ ثقافية وسياسية متغيرة من وقت إلى آخر (وهنا يدخل عامل التاريخ)، أو متنوعة (وهنا يدخل عامل الانثروبولوجيا الثقافية).
2 ـ التركيز على الفرق بين الإسلام، والوسط الإسلامي، والفكر الإسلامي. ونلاحظ أنه حتى الاختصاصيين المدعوين بشكل عنجهي بعلماء الإسلاميات يهملون التركيز على ضرورة إقامة هذا التمييز من أجل دراسة المعطيات الخاصة بهذه المستويات الثلاثة بشكل صحيح. إنهم يدعون أنفسهم بعلماء الإسلام في الوقت الذي لا نزال فيه بعيدين عن تكوين خطاب علمي عن الإسلام.
3 ـ دمج تحليل كل حالة خاصة أو فترة مدروسة في إطار واسع من المعرفة ذي أبعاد أنثروبولوجية. وهذه هي المنهجية الوحيدة التي تتيح لنا أن نتجنب أحكام القيمة السلبية التي يصدرها العقل المهيمن (أي العقل الغربي الذي اخترع الحداثة وسيّر شؤونها). أقصد بذلك تلك الأحكام السلبية التي يصدرها على الثقافات والشعوب المهمشة والمزدراة والمرمية في ساحات الدراسات الفلولكلورية أو الإثنوغرافية، بمعنى القرن التاسع عشر. وهذا ما يفعلونه غالباً مع «الإسلام» المدروس والمصنّف من قبل العقل المهيمن.
لكي نطبق هذه المبادىء المنهجية فإننا سنبدأ بالضرورة بالنقطة الثالثة.
إن التسامح الذي نتوق إليه الآن من جديد كان قد تولّد بالضبط عن اللاتسامح المتشكل عبر القرون للأنظمة الدينية التقليدية المرتكزة على أجهزة سلطة الدولة، سواء أكان يقف على رأسها إمبراطور أم خليفة أم سلطان أم ملك. فمن المعروف أن كل هؤلاء كانوا يستمدون شرعيتهم من الذرى الدينية. والواقع أن وضع المسيحية والإسلام متشابه جداً من هذه الناحية، لأن توسعهما كدينين مرتبط بتشكل الإمبراطوريات أو الممالك الخاضعة كلياً للتحديد اللاهوتي «الأرثوذكسي» لما يمكن أن ندعوه بالقانون ـ الحقيقة، أو بالحقيقة ـ القانون (أي الحق بحسب اللغة القرآنية ذاتها). المقصود الحق الذي علّمه الله للبشر. صحيح أن طرق تدخّل الإلهيّ في الشؤون البشرين تختلف من دين لآخر، ولكن أجهزة الدولة السلطوية تستمد بالطريقة نفسها مشروعيتها من التعاليم المقدسة والمتعالية التي يحرص على صيغتها الأرثوذكسية ويحافظ عليها «مسيّرو شؤون التقديس» بحسب تعبير عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (أي رجال الدين). وهكذا تمّ تشكّل نموذج للعمل التاريخي عبر التاريخ وتجسد في عدد كبير جداً من حالات التضامن المتبادل والوثيق بين ذروة السلطة السياسية (أي الدولة بمختلف أشكالها)، وبين ذروة السيادة المدعوة روحية، وهذا هو النموذج الذي نجده فيما كنت قد دعوته بمجتمعات أمّ الكتاب/ الكتاب.
مقدّمة «أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟»، 1995. ترجمة وتعليق: هاشم صالح
المعادلة الشاقة
احتل المفكر والمؤرخ والاكاديمي الجزائري (1928 ـ 2010) موقعاً بارزاً في النقاشات ـ وكذلك في النزاعات والشقاقات! ـ التي شهدتها الدراسات الإسلامية المعاصرة؛ على ضفتَيْ السجال، كما يتوجب القول: غلاة الدارسين الغربيين اتهموه بمحاباة الإسلام السياسي، والمؤسساتي، الحكومي أو المتنفذ مالياً، على حساب الفكر النقدي الذي بشّر به؛ وغلاة الإسلاميين، عرباً وعجماً، أخذوا عليه مغازلة العلمانية الغربية المتشددة. من جانبه كان يردد، دون كلل أو ملل: أنا مؤرّخ نقدي، أبحث في تاريخ الإسلام واجتماعه وفكره ونصّه القرآني وإرثه عموماً، من موقع مستنير ومنهجية منفتحة، ليس دون صرامة قصوى في كلّ حال!
ليس من السهل أن يتناول المسلم ظواهر الإسلام، وأن يدرّسها في الجامعات الغربية، في زمن لم يعد يشهد تسييس الديانة إلى حدود صراعية لا سابق لها، فحسب؛ بل شهد ارتطام الثورة الإسلامية الإيرانية، والخمينية استطراداً، باستشراق أوروبي حليف للمشروع الاستعماري، القديم منه والجديد؛ فضلاً عن هبوط الدراسات الإسلامية إلى مستوى التنميط والأحكام المسبقة والترهيب من الآخر، أو تحويل الإسلام إلى مرادف تلقائي للتطرف والتعصب والإرهاب. وليس سهلاً، في المقابل، إذا كان «الخطاب الإسلامي» يميل إلى السيطرة على كل الخطابات الأخرى بواسطة قوة التجييش السياسي التي يتمتع بها، وبسبب انتشاره الواسع سوسيولوجياً وسيكولوجياً، كما يقرّ أركون نفسه.
أعماله كثيرة، تتشابك فصولها وتتقارب أو تتباعد، دون أن تفترق كثيراً عن الموضوعة الرئيسية التي تعتمد البحث النقدي؛ وعناوينها تدل عليها: «الفكر العربي»، «الإسلام: أصالة ومعاصرة»، «نقد العقل الإسلامي»، «تاريخية الفكر العربي الإسلامي»، «الإسلام: الأخلاق والسياسة»، «العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب»، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي»، «الإسلام، أوروبا، الغرب: رهانات المعنى وإرادات الهيمنة»، «نزعة الأنسنة في الفكر العربي»…
ولقد سعى ـ في هذه الأعمال كما في محاضراته التي شهدتها منابر جامعات غربية وإسلامية شتى، غير السوربون التي احتضنت أفكاره منذ البدء ـ إلى قراءة نقدية تركيبية وسيطة، بين الخطاب الإسلامي الكلاسيكي، الذي يفصح عن التراث، ويعمل من داخل مجموعات نصّية راسخة؛ والخطاب الاستشراقي الذي يطبّق سلسلة مناهج قاصرة، إذا لم تكن فاسدة وخبيثة الطوية أصلاً. وتلك كانت معادلة شاقة، لعلها أفضت به إلى خدش حياء «المسكوت عنه»، وليس اختراقه أو التوغل في مجاهله!
محمد أركون
Reply
محمد الأحمد
Your comment is awaiting moderation.
Posted September 6, 2015 at 3:32 PM
التسامح وثقافة الاحترام المتبادل هما نتاج العدالة. اما ان يكون الانسان مسحوقا من قبل المستعمرين الأجانب وأزلامهم في الداخل ودُعاتهم في الخارج والداخل فمن غير المنطق ان تطلب التسامح من الضحايا. لا بد من تحقيق العدل حتى تنمو وتقوي جذور التسامح ويحترم القانون وشواهد التاريخ الإنساني كثيرة. أوروبا أصبحت تتحدث فقط عن التسامح بعد انتصاراتها الاستعمارية مستغلة التسامح كوسيلة لاستعباد أطول للشعوب المغلوبة. ودعوة التسامح بالمفهوم الغربي ليست الا كلمة حق يراد بها باطل عندما يتعلق الامر بالهجوم على الاسلام. . نعم هناك قسوة وحدة ولا تسامح في مجتمعاتنا الاسلامية ولكنها ليست من صلب العقيدة الاسلامية بل هى نتاج ظلم وتصرفات الحكام المأجورين الذين لا هم لهم الا المحافظة على اسلابهم ومسروقاتهم وقمع الناس مستغلين الدين الحنيف ووعاظ السلاطين لتزين وشرعنة سوء أعمالهم. محمد اركون بحث في خلل التسامح في المجتمعات الاسلامية ولكن بدون التمحيص في أسبابه وغياب العدل فاندفع مهاجما روح الاسلام وجوهره متجاهلا السبب الرئيس والمباشر لهذا الخلل فعمل بكل ما أوتى من جهد لاسترضاء المستعمرين بالتهجم على الاسلام من كل حدب وصوب وكان عليه، لو أراد المعرفة الحقة، ان يقراء كتابات وشهادات منصفة في الاسلام وعلى سبيل المثال لا الحصر ما قاله المفكر ارنولد تونبي (لم يعرف التاريخ فاتحا ارحم من العرب). والحق ان من شب على شيء شاب عليه، ومعرفة سيرة السيد اركون وافية لسبر أهدافه ومقاصده. فالحكمة تتطلب منا تصحيح الخلل وإحقاق العدل ورفع الظلم ومعاملة الآخرين كما تريدهم ان يعاملوك.
لقد كفيت ووفيت يااخ محمد
لم يكرم الرئيس سركوزي الدكتور اركون مدعيا بانه لا يتعامل مع الفرنسيين من جذور اجنبية قبل نقل جثمانه من طرف سفير المغرب لدفنه دون موافقة اسرته و دون علمها ثم لم يكرم من طرف اساتذة جامعة السربون الذين لم يمنحوا الدكتور محمد اركون الذي يمتلك كرسي الحضارات الشرقية لانه رفض قبول اقحام اسرائيل ضمن قسم الحضارات الشرقية لانه متاكد يبان هذه العصابات لا تمتلك حضارة وهي دخيلة علي منطقة غنية بحضاراتها
رحل المغفور له محمد اركون و لم يكرم من طرف بلده الجزائر و لا من طرف البلد التي اختضنته و منحها اسما و لم يريد الرئيس سركوزي الاعتراف بما قام به محمد اركون كعالم في وضع فرنسا في موقع علمي دولي