الاحتفاليات الثقافية ودورها في الحراك الثقافي المصري… «حظيرة كبيرة» تحارب الخارج عليها والفساد معيارها الوحيد

القاهرة ـ «القدس العربي»: الكثير من الاحتفاليات الثقافية، سواء ندوات أو مؤتمرات تشهدها القاهرة، حتى أننا لا نكاد ننتهي من مناسبة إلا وتلحقها أخرى. وإن كانت القاهرة وستظل قِبلة المثقفين العرب، إلا أن الأمر تحوّل إلى مسألة شكلية أكثر من كونها ذات دور مؤثر على الحركة الثقافية بشكل عام.
وزارة الثقافة لا تتواني عن إقامة المؤتمر تلو الآخر، إلا أن بعض المثقفين غير المحسوبين عليها أقاموا من ناحية أخرى مؤتمراتهم الخاصة، التي أثبتت شيئا من الفعالية، رغم الإعلام المنحاز لمؤسسة الدولة. وكل هذا مرهون بحالة الوعي لدى الناس العاديين، فهم في عالمهم الواسع يعانون من تجهيل ومستوى معيشي متدن، بينما المثقفون في غرفهم وقاعاتهم المغلقة يتحدثون وينظّرون. عن هذه الاحتفاليات وجدواها نطالع رأي العديد من الأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي المصري.

الولائم الكبرى ورشوة المثقفين

في البداية يرى الروائي ممدوح عبد الستار.. أننا نعيش الحقبة الثقافية نفسها منذ السادات وحتى اليوم، رغم قيامنا بثورتين طلباً للتغير. والتغيير في حقيقة الأمر، هو اتباع سياسة أخرا، تتبع مناهج وأساليب وأدوات مختلفة، لتصل الثقافة إلى الجميع بدون استثناء، إذا كنا نعتبر الثقافة هي جوهر العصر، إذ أن الثقافة بمفهومها الشامل هي التي تجعل الفرد يتقبل الآخر، ويتقبل اختلافه، وتنفي العنصرية بين طوائفها المختلفة والمتناحرة، وتعطينا يقينا بأن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، وتجعل من الحوار الوسيلة الوحيدة والمثلى للتعايش.
هذا المفهوم الواسع هو ما يجعلني أنظر للبنية التحتية للثقافة الشعبية، ودور المؤتمرات، وحاجتنا الفعلية للاحتفاليات الثقافية، فأرى أن جموع الشعب لا تعلم الكثير عن المثقفين والكتاب والشعراء، لانشغالهم بلقمة العيش، وعدم تشجيع الدولة للقراءة والاطلاع، حيث أن التعليم يقوم بدور الملقن، كما هو وارد أيضا في الثقافة الدينية الشفهية لأغلب المتدينين.
فالمهرجانات والمؤتمرات الثقافية تقام لأصحابها، فهي لا تخرج من خلف القاعات المزينة ببعض الرسومات، والقمصان الناشفة كأصحابها، وببعض الكلمات الجوفاء، والمصطلحات الغريبة، إنها في الحقيقة تمثل تكريساً للتميّز، واستقطاب السلطة لأصوات المثقفين، إنها وليمة، أو رشوة كبرى للمثقفين، مثلما فعلها من قبل فاروق حسني، وقال «يجب إدخال المثقفين الحظيرة»، حيث أن الدولة ترى أن المثقف خطر عليها، وعلى بقائها، من هذا المنطلق، يجب أن تستمر الكرنفالات والمهرجانات، والمؤتمرات الثقافية، لتستمر الدولة في بث روح الفرح والبهجة في نفوس الأبراج العاجية، وتظل أصواتهم خافتة، ضعيفة، لا تسمعها إلا القاعات المغلقة.

المثقف الموظف وأزمة الثقافة

ومن جانبه يقول القاص والروائي محمد محمد مستجاب، إن لدينا في مصر بعض المؤتمرات السنوية، التي أعتقد أنها تكلف كثيراً، منها مؤتمر أدباء مصر، ومؤتمر الرواية الذي انتهى منذ أيام قليلة، وبنظرة عامة سنجد أنها ملتقى للمثقفين، وهذا ضروري سواء في الوطن، أو أن يأتي ضيوف من الخارج، لكن نظراً لأن الكثيرين يعملون في الثقافة، أي أنهم موظفون قبل أن أن يكونوا كتاباً أو مُشاركين في المشهد الثقافي، فنجد أن هذا «الجزء» يأخذ كثيراً، سواء من الضوء الإعلامي أو الميزانية الخاصة بالمؤتمر، مما يأتي على حقوق البعض ومَن لهم دور إبداعي حقيقي على أرض الواقع، لكنهم يفتقدون العلاقات، أوليسوا ضمن شِّلة تقدم أسماءهم، وبالتالي يحتل موظفو الثقافة جزءا كبيرا من هذه المؤتمرات، إضافة إلى أن هذه المؤتمرات ليست لها مشاركة حقيقية على أرض الشارع، أي لم نجد لقاء يتم تحديده لمجموعة من الكتاب بمجموعة من طلاب الجامعات في هذه الأماكن، أو حتى تتم دعوة جمهور الشارع لها، وبالتالي تفقد قوتها التي قامت من أجلها، فيتحول الكثير من هذه المؤتمرات لجلسات سمر ومأكل ومشرب فقط لا غير.
ويرى مستجاب أن تخرج هذه الاحتفاليات عن رعاية وزارة الثقافة، وأن تكتفي الوزارة بتقديم الدعم، من انتقالات وإقامة وخلافه، فيكون مثلاً اللقاء في مقهى شهير في تلك الأماكن النائية، فيكون الاحتكاك بالجمهور، سواء مناقشات أو قراءات، يبدو هذا التصور صعبا، ولكنه يسير حسب طبيعة المكان أي أنه «حُر» بدون التقيد بأبحاث يتسابق على كتابتها البعض، أو كتب كي يحصلوا على مكافأة، وهي عبارة عن كتب «قص ولصق» لا غير، كما أن الحكومة يجب أن تكون واعية أكثر بدور المثقف في الوقت الراهن، فلا يصح أن يكون المؤتمر لأشخاص في شكل انغلاقي كما يحدث، هل فكرت أن تذهب مجموعة لكنيسة أو مسجد أو جمعية وتلتقي بالجمهور؟ في الماضي كان يحدث هذا، لدي صورة قديمة للكاتب الكبير نعمان عاشور وقد جلس على منصة وكتب خلفه «لقاء الكاتب الكبير نعمان عاشور بطلاب معهد الخدمة الاجتماعية» الصورة تعود إلى عام 1968 تقريباً، وهل فكرت الدولة أن يقام المؤتمر في مصنع مثل، مصنع الحديد والصلب، أو في أحضان مشروع قناة السويس الآن، سهل جداً أن ننفذ هذا، من حيث الإقامة والتدابير المعهودة، ولكن لن تستطيع الدولة فعل ذلك، وإن فعلت فلن يذهب أيضاً إلا موظفو الثقافة، وبالتالي يسقط أي مؤتمر يُقام للمثقفين.

حظيرة كبيرة تحارب الخارج عليها

ويؤكد هذا الرأي الشاعر عادل جلال، المنسق العام لمؤتمر قصيدة النثر المصرية، فيرى في البداية أن أحد أهم المزايا بعد هذا التوقف بسبب الربيع العربي، هو لقاء الأدباء ببعضهم، لكنه حراك ثقافي داخل المربع فقط، أي بين المعنيين به، وهو الدور المحدود للغاية ولا يشكل أي مردود على الثقافة بمصر، طالما ظلت بين القاعات الثقافية، وتدار بالآليات نفسها، حيث الوجوه نفسها هي مَن يتم استدعاؤها، وكأن البلاد لا تنتج إبداعا مستمراً ومتجدداً.
ويُضيف جلال في كل دول العالم تكون هذه الفعاليات في أماكن مختلفة من الشارع للمقهى للأماكن العامة والمكتبات والجامعات والمدارس، وهو ما لم يحدث حتى الآن في مصر، خاصة أن مؤتمرات الدولة هي القادرة على هذا الخروج، مقارنة بمؤتمرات أو مهرجانات المجتمع المدني، التي تصطدم بالتصريح الأمني وغيره من الإجراءات البيروقراطية المعوقة. وعن تجربة «مؤتمر قصيدة النثر» مثلاً، فنحن نجد صعوبة إن لم تكن استحالة في خروج أنشطتنا للناس، حيث قنوات التواصل تكاد تكون منعدمة، إلا إذا جاءت أيضاً بعلاقات شخصية قادرة على فعل ذلك. وسأذكر مثالاً واحداً لذلك.. التلفزيون، حين تمت دعوته لتغطية فعاليات المؤتمر لم يحضر أحد، بل حينما أرادوا مادة عن المؤتمر أخذوها من أحد الأشخاص الذي تطوع وحضر بشكل شخصي وسجّل فعاليات المؤتمر.
ويعلق عادل جلال على مُلتقى الرواية السادس، الذي فاز فيه الروائي بهاء طاهر بجائزة هذا العام قائلاً.. هذا يعود لفكرة الآليات نفسها التي تقيم بها الدولة أنشطتها وواقع الثقافة والمثقف المصري، فلا جديد في الأمر ــ إرجع إلى الحظيرة وتاريخها لن تجد تغييرا يُذكر ــ وهذه الحظيرة مازالت هي الحاكمة ولن يحدث تغيير إلا بالموت وتحت هذا التراب دفن الكثير من الأجيال، هناك مَن يريد الحفاظ على هذا الوضع، فمحدثك تجاوز الخمسين، ولهذا.. من العادي أن تحصل على ليس الجوائز فقط بل كل ما يتعلق بوزارة الثقافة، ابناء الحظيرة كل على حسب درجته داخل هذه الحظيرة المقرفة، مقابل تراجع وتدهور الدور الثقافي المصري.

مؤتمرات الفساد والترويج للذات

وأخيراً يرى الروائي محمد داود أن الكتابة الأدبية حالة فردية قلما تفيدها المؤتمرات والملتقيات، فكل عام ينعقد مؤتمر أدباء مصر، ويصدرون بيان رفض التطبيع مع العدو الصهيوني، وانعقد ملتقى القاهرة السادس للرواية مؤخراً، والأمور تدار كما كانت على مر الزمان، انحرف دور وزارة الثقافة بدلاً من خدمة الثقافة والشعب، إلى خدمة مجموعة ضيقة من الكتاب والمدعين، تربطهم علاقات وبينهم مصالح متبادلة، ويستخدمون المؤتمرات للترويج للذات، واستقدام كتاب ونقاد وصحافيين من دول عربية وأجنبية لإقامة علاقات معهم، ولكي يستقدمهم هؤلاء بالتالي في بلادهم، ويكتبون عنهم الدراسات والمقالات، ويتيحون لهم النشر في صحف بلادهم.
ويذكر داود تجربته قائلاً.. لم أدع لمؤتمر ولا ملتقى قط، على حين تجد في ملتقى الرواية الأخير مدعوين لا كتبوا روايات ولا نقداً روائياً أصلاً، وقد صدرت لي 5 روايات والسادسة قيد النشر، المسألة ليست بالكم، لكن أعمالي معروفة، وهذه المرّة عزمت على مقاضاة الملتقى، والمطالبة بإعلان معايير الاستضافة، سأثبت ألا معايير هناك سوى المصالح الشخصية، سأطلب أسماء المدعوين سنوياً، وأختار بعضاً منهم، وأبحث سبب دوام الاستضافة، مقارنة بكُتاب لم توجه الدعوة إليهم من قبل؛ لأن المسألة ليست المنجز الروائي، لكن المصالح والعلاقات، ولعلي أكون أول من يتخذ خطوة إيجابية، وللعلم، لا أنوي الذهاب إن دعيت. سأقاضيهم لأثبت على نحو ما أن الفساد ليس فقط تقاضي الأموال بدون وجه حق، لكن أيضاً في النفوس التي تقدم المصالح الشخصية على المصلحة العامة، وتحيل المؤتمرات إلى مال عام سايب، يتم إهداره لصالح مجموعة من المنتفعين.
فلن تجد أثراً إيجابياً فعلياً للمؤتمرات والملتقيات الأدبية ومَن يجد شيئاً كهذا فليخبرنا به، ودع عنك الحيل اللفظية التي تحدثك عن الاحتكاك بالآخرين وغير ذلك من مبررات، الفساد يقضي على كل شيء ويفقده المعنى.

محمد عبد الرحيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية