التجريب وسحر الصورة السينمائية

إذا انطلقنا من تصور جيل دولوز للسينما كممارسة جديدة للصور والعلامات- (حوار الفلسفة والسينما، ترجمة د. عز الدين الخطابي، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، 2006 – الدار البيضاء.) أمكن أن نفهم الشكل الذي أضحت تشكله الصورة السينمائية اليوم، لا بوصفها مجالا خاصا للتربية فقط، بل بكونها كذلك محركا للثقافة وتوجيه الجمهور، نتيجة هيمنة ما هو سمعي – بصري على العصر، فالعين تحلل اللقطات بسرعة قياسية مشاهد متلاحقة، وتفكك الإرساليات ويبني المشاهد موقفا بسرعة خاطفة في نفس لحظة المشاهدة بخلاف سردية الأدب أو الأفعال القرائية، وهو ما نبه إليه «كانط» بعمق، بأن الخيال في المعرفة يشتغل لصالح الفهم، أما في الفن فإن الفهم هو الذي يشتغل لصالح الخيال، فمعنى الفيلم متضمن في إيقاعه كما معنى الإشارة يكون مقروءاً على الفور ضمن الإشارة نفسها.
للخطاب الفيلمي طبيعته الخاصة، التي تجعله رهين أسيقة خاصة، فمع تطور التقانة السينمائية أصبحت الصورة السينمائية اليوم هي الحامل الكبير للمعرفة والحقيقة، وبتوفر شرط الإبداعية عند رجل السينما يمكن أن يرتقي هذا الخطاب إلى مستويات الإقناع العليا لدى المُشاهد، فهناك سياق النص/ السيناريو، وسياق الزمن الذي تتفاعل داخله / وعبره عدة محكيات ومواثيق نصية اعتمادا على تقنيات: كالتركيب، والمونتاج، والتقطيع، وبتر المشاهد، وتصغير المكان، وسرعة مرور الحدث، وحركة الكاميرا، وهي تنقل المشاهد، ثم المشاهد الخلفية وإيحاءاتها، وتقنيات أخرى كالتركيب الفيلمي السريع، والبطيء، وجمالية الصور والأمكنة وشاعريتهما. وفي مستوى آخر البنية الحكائية التي يقدمها نص السيناريو، حكايته الأساس، والحكايات الصغرى المتفرعة عنها، وحدود تفاعلات بنياتها الحَدَثية والزمنية والفضائية والشخوصية ومساراتها ضمن الفيلم. من هنا يأخذ التركيب الفيلمي صفة ومنحى الخطاب الذي لا يمكن إدراكه من خلال الوقوف على تجربة سينمائية واحدة، بل بالوقوف على أكثر من إنجاز واحد لنفس السينمائي من أجل إدراك مشروعه السينمائي أولا ولتكوين فكرة واضحة عن هذا المشروع.
لقد جسدت السينما الطليعية منذ ثلاثينات وأربعينات القرن المُنقضي ضمن ما عرف بالفيلم التجريبي مع اختلاف التسميات: (السينما التجريبية/ السينما المستقلة/ السينما الطليعية/ السينما الشاعرية/ أفلام الموجة الجديدة…) رهاناتها الجمالية، ورغم أنها كانت تُنتَجُ من قبل الأقلية في بادئ الأمر وقلما تنتج على مستوى تجاري، إلا أنها سرعان ما انتشرت بين الجمهور وحظيت بالمتابعة والاهتمام كمن طرف النقاد والمتتبعين.
كل أفلام هذا التوجه تقريبا انطباعية، فالمخرج يستخدم الفيلم كوسيلة لاستكشاف ما تحت السطح في هذا العالم المادي ( في أمريكا كانت هذه السينما يصطلح عليها بسينما «تحت الأرض»)، لأن المخرج هنا لا يهتم بتسجيل الحياة الحقيقية، وإنما بخلق كون خيالي تماما، لأنه يفضل ركوب موجة الاكتشاف والاختراع، وحتى في حالة استدعائه لرموز تاريخية فإنه يفرغها من «تاريخيتها» ويقحمها ضمن عالمه الخاص مثل حالة المخرج «يوسف شاهين» حينما استدعى شخصية «ابن رشد» في فيلم «المصير» ليصفي حساباته مع الرقابة.
والفيلم التجريبي غالبا ما ينحو هذا المنحى الذي يتَّسم بالذكاء والاستفزازية، ونادرا ما يكون مريحا أو مسليا، ومعقد من الناحية التقنية وعسير على الفهم على الأقل أثناء عرضه الأول، ومن شروط تلقيه أن يتحلى المُشَاهد بالتعاطف والصبر لكي يلج غمار هذه السينما التي هي في الأصل سينما مُمتَنعة عن العموم من ذوي الذوق السيء وثائرة ضد «الكذبة الكبرى للثقافة» بأخلاقها السطحية، ومُمَانعة من جهة انحيازها إلى صفوف المقهورين والمهمشين.
من رموز هذه السينما: «جان كوكتو»، «هانز ريختر»، «لويس بونيويل»، «ماريا ديرين»، «كنيث أنكر»، «فيديريكو فيلليني»، «ألكسندر سوكوروف»، «جون لوك غودار»، «جان بيار ملفيل»، «كين لوتش»، والألماني «راينر فرانر فاسبيندر»، الذي توفي وعمره بالكاد يناهز سبعة وثلاثين سنة، صور خلالها أزيد من أربعين فيلما، وانبرى لفضح المعجزة الألمانية متشبعا بأفكاره اليسارية سواء من خلال السينما أو من خلال المسرح ضمن فرقته «أكسيون تياتر».
وفي عالمنا العربي برز المخرج «يوسف شاهين» في فيلموغرافيا طويلة يصعب حصرها هنا، وتلميذه «رضوان الكاشف»، الذي عمل معه لسنوات طويلة كمساعد مخرج قبل أن يخوض تجربته الخاصة من خلال فيلم «ليه يا بنفسج»، ويصور فيلمين جميلين بعد ذلك هما: «عرق البلح» و فيلم «الساحر» الذي كتب له السيناريو «سامي السيوفي» وأدار تصويره بحرفية عالية «محسن نصر»، وفيه قدم نجوم السينما المصرية «محمود عبد العزيز»، «منة شلبي»، و»جميل راتب»، و»سلوى خطاب» في صورة مختلفة تماما، وجاء عالمه عذبا ووساحراً تساوقا مع عذوبة العنوان الذي وسمه به مكرسا بذلك «نظرية البهجة «العنوان الاول للفيلم، دون أن ننسى مخرجا مصريا آخر هو «رأفت الميهي» الــذي يعتبر من أكثر المخرجين الذين حملوا مشروعا تجريببيا وعكست أشرطته روح وجمالية هذا التوجه في السينما العربية.

٭ كاتب مغربي

محمد عبد الفتاح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية