الترجمة الأدبية… فحص للعلاقة مع التلقي والأصالة

حجم الخط
2

الترجمة ضرورة والقول باستحالتها (كما يذهب إلى ذلك جاك دريدا وقبله الجاحظ) لا يمنع من ممارستها، فهي ممرنا اللازم لتأسيس علاقات جديدة مع العالم، وطريقنا لإعادة اختراع نظام العلامات التي تتحكم بارتباطاتنا مع ذواتنا ومع الآخر القصي، المختلف، المرتاب والكثير الظنون.
ولأن الترجمة عمل تفسيري من جهة كونها، بالأساس، قراءة وكل قراءة تأويل فإنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتلقي، طالما أن المترجم، من حيث الأصل، قارئ تنطبق عليه كل آليات التلقي والاستجابة، التي يفترض منهج التلقي تطبيقها على القارئ للنص بلغته الأصلية. مع ذلك فإن الدراسات الاستقبالية لا تولي الترجمة الأدبية والتلقي الترجمي الاهتمام الذي يناسبهما، رغم إقرار تلك الدراسات بمسألة أن الترجمة تستطيع أن تؤثر، بل حتى أن توجه، تلقي النتاج الأدبي في البلد المعني إقبالاً أو إعراضاً، فهماً أو إساءة فهم، تأثراً إبداعياً أو عدم تأثر.
هناك اتجاهان عامّان في مجال الدراسات المتعلقة بتلقي الترجمة الأدبية: يقول الأول بوجوب عقد صلة قوية عمادها المقارنة بين الترجمة والأصل، ويميل الثاني إلى الاكتفاء بتحليل تلقي الترجمة في الثقافة الهدف، ويجعل بذلك من اللجوء إلى الأصل أمراً غير ملزم. يتبنى الاتجاه الأول الباحث الألماني البروفيسور رولف كلوبفير ،الذي يرى أن محاولات تحديد موضوع البحوث الخاصة ببناء نظرية علمية للترجمة الأدبية لا بد أن ترتكز على ملاحظة الترجمة عن طريق النص الأصلي، بمعنى أن الترجمة ينبغي دراستها لا بوصفها نتاجاً من لغة وثقافة الهدف فقط، بل لا بد من تحليلها وفق علاقتها مع الأصل واشتغال أدواتها في الثقافة المنبع.
أما الاتجاه الثاني فيقول به الباحث التشيكي جيري ليفي الذي يرى وجوب تحليل الترجمات في سياق الثقافة الهدف، ولا يجد ضرورة ملزمة لتفحص حال النص في الثقافة الأصل. بالنسبة لي، فأنا أميل إلى الرأي الثاني أي تحليل تلقي الترجمة الأدبية، ضمن سياق الثقافة الهدف من دون وجوب الرجوع إلى الأصل ولي أسبابي منها: 1 ـ أن الترجمة لا تتوافق، زمنيا وفي كثير من الأحيان، مع النص الأصلي، إذ أن ظهور الكثير من الترجمات يكون، في بلداننا العربية على الأقل، متأخراً عن لحظة ظهور العمل الأدبي في لغته وثقافته الأصل.
وهنا لن تكون المقارنة بين تلقي النتاج بلغته الأولى وتلقيه باللغة الهدف مجدية، لأنَّ التلقي محكوم بزمنه وموصوف بالتبدل وعدم الثبات ومعروف بالتبعية لظروف جمهور المتلقين الزمانية والمكانية والنفسية والاجتماعية واللغوية. 2 ـ إن هذا الاتجاه الثاني يعامل النص الأدبي المترجم على أنه نص مستقل يمتلك تلقيه الخاص الذي يجب ألا يقاس على أساس التلقي الذي كان للنص في لغته الأصلية. 3 ـ إنه يأخذ بالحسبان أن المتلقين الجدد، الذين لم يُكتب العمل الأدبي في الأصل من أجلهم ولم يكن موجّهاً إليهم، مختلفون زمانا ومكانا وثقافة وتكويناً، وأفق تلقي عن المتلقين الذين كتب النص لهم بلغتهم وبثقافتهم وزمانهم ومكانهم واهتماماتهم.
من المؤكد أن هذا الاختلاف سينعكس على تلقي العمل الأدبي الأجنبي إقبالاً أو إعراضاً، فهماً أو عدم فهم، تأثراً إبداعياً أو عدم تأثر. 4 ـ لهذا الاتجاه الثاني في التلقي الترجمي ميزة أخرى تتمثل في اعتباره المترجم ممثلاً للمؤلف في اللغة الجديدة في الوقت نفسه الذي يمنحه مكانة الخالق لعمل جديد يحمل تأويله الخاص الذي قد يلتقي أو لا يلتقي مع نية المؤلف الأصلي. بحسب هذا الفهم لدور المترجم، يمكن للترجمة أن تعيش حياتها الخاصة، طالما أنها تمتلك تلقيها المستقل في السياق الأجنبي، أي السياق الهدف. 5 ـ وأخيراً، يمنح هذا الاتجاه الثاني في التلقي الترجمي النص المترجم هويةً ثنائيةً تبتعد بالترجمة عن تلك النظرة الدونية التي لا ترى فيها أكثر من نسخة تعيد إنتاج عمل سابق في وجوده عليها تدين له بالتبعية وهي بذلك تنفي عن الترجمة الإبداع والأصالة.

الترجمة والأصالة

بودي هنا أن أفتح قوسين أناقش بينهما فكرة أصالة الترجمة وأحاول أن انفي عن هذه الأخيرة صفة التقليد والمحاكاة للنص الأصلي. عند الكلام عن الأصالة ، لا بد من التفريق بين أصل وأصيل وليس شرطاً الكلام عن الجدة، لأنه متضمن في الأصالة، إذ أن الأصيل لا بد أن يحوي جديداً، وإلا فإنه ليس بأصيل. ينبغي التنويه إلى أن الاتجاه الرومانسي، الذي كان مهووسا بفكرة الأصالة، ساهم بشكل كبير في النظرة الدونية إلى الترجمة وفي عدِّها مجرد نسخة عن الأصل، يجب ألا تداني من حيث الإبداع هذا الأخير الذي لا بد أن يبقى محتفظاً بتفوقه وترفعه قبالة النص المترجَم. من المهم الحديث عن مفهوم النص قبل التطرق إلى مفهوم الأصالة.
في ستينيات القرن الماضي، وضع النقاد ما بعد النيويين موضع تساؤل مفهوم أصالة النتاج الأدبي. في كتابه «من الأثر الأدبي إلى النص» 1971، يصف رولان بارت انزياحاً لمفهوم الأثر نحو مفهوم النص ويقول إن النص، أثناء تكونه، يعبر عدة نتاجات سابقة له أو معاصرة يعيد، بوعي أو بدون وعي بقصد أو بدون قصد، تشكيلها وفق آليات القراءة والتأويل. التأويل، هنا، عملية نشيطة ومبدعة يختفي فيها، أو يكاد، كل حد فاصل بين القراءة والكتابة. بمعنى أن النص المقروء الذي هو عبارة عن شبكة ذات مخارج متعددة ودلالات غير متناهية، يدعو القارئ إلى أن يصبح مؤلفاً مشاركاً.
هكذا فان مفهوم النص كما يعرفه بارت يعيد وضع مفهوم النتاج المستقل والمنغلق على نفسه موضع اتهام. بمعنى آخر، كل نص مكتوب لا يعدو كونه فسيفساء من استشهادات وانتقاءات من نصوص سابقة أو معاصرة يعاد ترتيبها وتوزيعها وصفّها في شكل جديد، مما يجعل من كل كتابة امتصاصا وتحويلا لفعل كتابي آخر سابق يُنتجُ، هو نفسه، نصاً لا بد أن يكون موضع تقاطع مع نصوص أخرى تجد لها فيه إعادة قراءة وتكثيفا وتركيزا وانتقالا وتعميقا.
يشبه عمل المؤلف هنا عمل موظف الأرشيف الذي يجمع وثائق ويعيد كتابتها ضمن سياق جديد. هذا المفهوم المختلف للنص له، بحدود تعلق الأمر بالتلقي الترجمي، فائدتان. الأولى أنه ينفي صفة الأصالة عن النص الأصل وفي نفيها عنه حجة على تساويه، من ناحية عدم الأصالة على الأقل، مع النص المترجَم. فإذا كان النص الأصل، وهو السابق بوجوده للنص المترجم بطبيعة الحال، موصوفاً بعدم الأصالة من غير أن يمس ذلك الوصف وجوده ولا كيانه ولا يضر بشرعيته، ولا يثير اعتراض مبدعه، فالأولى ألاّ تنال تهمة النسخ وعدم الأصالة النص المترجم، طالما أنه يقف في مرتبة واحدة مع النص الأصل من حيث كون هذا الأخير نسخة من نصوص سابقة.
فضلاً على ذلك، فإن المترجم الأدبي لا يفعل أكثر مما يفعله المؤلف للنص الأصلي الذي، بحسب مفهوم رولان بارت، يخرج نصاً أو نصوصاً من ترابطها الأدبي، اللغوي والثقافي كي يضعها داخل سياق أدبي، لغوي وثقافي آخر. لعلي، استناداً إلى مفهوم التناص الذي يقول به نقاد ما بعد البنيوية، لا أبالغ إذ أقول إن النص المترجم أكثر أصالة من النص الأصلي، لأن هذا الأخير يجد لنفسه نسخاً تشبهه من قريب أو من بعيد في ثقافته وسياقه ولغته، أما النص المترجم فإنه يقدم نسخة فريدة لا شيء يشبهها في اللغة الهدف. غير أن رأيي هذا يمكن الاستشكال عليه بالفكرة التالية: لا يكون النص أصيلاً، إلاّ إذا كانت جمله وكلماته غير مأخوذة من مؤلفين آخرين، وهذا أمر يستحيل مع الترجمة بقدر ما يستحيل مع النص الأصلي. ليس إذن من الممكن الحديث عن الأصالة بالمعنى الرومانسي للمصطلح، ما دامت الأصالة مفهوما لم يعد له وجود. مع ذلك يبقى الحديث عن الأصالة في الترجمة ممكناً شرط النظر اليها على أنها عمل مستقل عن النص الأصل وخاضع لسياقاته الأدبية واللغوية والثقافية الخاصة.
قلت آنفاً إن الترجمة عمل تفسيري أعني بذلك أنها تشبه، من حيث آليات عملها، الهرمونيطيقا الأدبية، وذلك من باب ارتكازها، كما هذه الأخيرة، على الفهم أو الاستيعاب المؤدي إلى التأويل، ومن ثم التجسيد، أي منح الفهم والتأويل شكلاً مادياً جديداً في نص مستحدث داخل لغة أخرى هي غير لغة الأصل. ثلاثية الاستيعاب-التأويل ـ التجسيد هذه يتحدد بحسبها دورُ المترجم الناقل لنص أدبي من لغة إلى أخرى ومهمتُه التي تتمثل بعكس أجواء النص الأصل في النص المستحدث، بأن توقظ قراءة هذا الأخير عند القارئ الأجنبي مشاعر وعواطف مشابهة (وليس شرطاً أن تكون مطابقة) لتلك التي يثيرها النص عند القارئ الأصلي.
أجد هنا فرصة مناسبة للحديث عن نقطة تبدو لي جوهرية تتعلق بتحديد دور المترجم المتلقي في نقل النص الأدبي، وما يدخل في ضمن ذلك من تحليل وتأويل للنص المترجَم. إن الحديث عن دور المترجم ينطلق من كون هذا الأخير، قبل كل شيء، متلقيا خاصا وقارئا نموذجيا للنص الذي ينوي ترجمته، وهو بهذا الوصف خاضع لسياقات القراءة والتلقي التي يتشاركها مع غيره من القراء والمتلقين. ما يؤثر في الترجمة اذن ليس فقط معرفة المترجم اللغوية، بل ايضا تجاربه الذاتية والعاطفية والاجتماعية والجمالية، التي تحدد أفق انتظاره وتوجه حساسيته تجاه القيم التي يحملها النص الفني وقدراته على تأويل وتفسير محمولات ذلك النص. لا تتبدى الترجمة في كل اتساع ممكناتها، إلا عندما تتدخل التجربة المعيشة واللغوية للمترجم ضمن أفق انتظار نتاجه وتوجه تأويله بحسب مجموع من الخيارات ذات الطبيعة اللغوية، الأسلوبية، الجمالية والايديولوجية أيضا.

مترجم وناقد من العراق

حسن سرحان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أ. د. عـبـده عـبـّـود:

    مـقـالة قـيّـمـة تعني المشتغلين في مضمار الترجمة الأدبية والأدب المقارن، وفيها بعض المقولات الخلافية التي تستحق المناقشة، وقد سبق لي أن عرضتها في كتابي “هـجـرة الـنـصـوص – دراسـات في الترجمة الأدبية والتبادل الثقافي” الصادر في دمشق ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب. شـكـرا لمترجم والناقد حـسـن سـرحان

  2. يقول د. حسن سرحان.. العراق:

    أستاذي الكريم أ. د. عبده عبود..ممتن لرأيك فيما كتبت. يسعدني أن أتبادل مع حضرتك المعرفة. دمت بخير..أ. م. د. حسن سرحان

اشترك في قائمتنا البريدية