■ أفاق التونسيون من نشوة الحملة الانتخابية لمجلس نواب الشعب، وما راج فيها من شعارات طموحة حالمة، على نتائج صدمتهم، بل رجّت صفّ مؤيّدي الثّورة رجّا.
وانطلقت حملة الانتخابات الرئاسية على وقع تلك النتائج وتداعياتها. سبعة وعشرون مرشّحا لقصر قرطاج، نصفهم من رجال دولة الاستبداد، وأكثرهم دعاية وطموحا، رجل في التسعين من عمره، يرى أنّه الأقدر على تلبية طموحات الشباب، وترسيخ الديمقراطية، رغم اعترافه بأنّه رعى تزوير الانتخابات في الدولة التي قامت عليها الثّورة. وطُرح السّؤال بوضوح، بعد أن كان مجرد شعور يظهر أحيانا، ويختفي أحيانا أخرى: أين هي الثّورة، ومن سرق أحلام التونسيين؟
من الخطأ القول بأنّ أنصار نظام بن علي عادوا، لأنّهم لم يخرجوا أصلا، ولم يغادروا مؤسسات الدولة. نعم نزع كثير منهم إلى الصّمت وتوقّفوا عن كثير من ممارسات ما قبل الثّورة، وتجنّبوا فعل ما يمكن أن يستفزّ الرّأي العام. ولكنّه صمت شتويّ مؤقّت، أرادوا به تفويت الفرصة على أنصار الثّورة من الاقتصاص منهم وإبعادهم عن مراكز القرار.
وحتّى عندما استلم التّحالف الحزبي الثلاثي بقيادة حركة النّهضة الحكم، إثر فوزهم بأغلبية الأصوات في انتخابات نوفمبر 2011، احتفظ معظم كبار مسؤولي عهد بن علي بمناصبهم في مختلف الوزارات التي كانوا فيها قبل الثّورة. كان رجال الحكم الجدد، حريصين على ألاّ يتّهمهم أحد بمعاقبة رجال العهد الماضي، والاقتصاص من خصومهم السابقين، فأبقوا على معظمهم. لكنّ كثيرا من هؤلاء ظلّ يدسّ الدسائس، ويعرقل عمل الحكومة بطريقته، بل إنّهم في بعض الوزارات نجحوا في إرباك وزرائهم ووضع العراقيل أمامهم. ساعدهم فيها ضعف خبرة الوزراء الجدد، وجهل كثير منهم بآليات العمل الحكومي، وبلغ الأمر أنّ بعض الوزراء لم يعلموا بمراسلات مهمة تخصّهم، ولا بحقائق صادمة تجري في وزاراتهم.
وقد نجح كثير من رجال ونساء النظام البائد، في كسب ثقة القادمين الجدد إلى مؤسسات الدولة والحكومة، فاستعادوا خلال أسابيع قليلة مواقعهم فيها. وذهب بعض الوزراء الجدد إلى استقدام مستشارين ومسؤولين من رجال النظام القديم «للاستفادة من خبرتهم»، بل حتّى فرارا من رقابة شركائهم في الثّورة في بعض الحالات! فكانت الوزارات محسوبة على أنصار الثّورة، ولكنها تعمل في معظم أنشطتها بأجندات القوى المضادة لها. نعم كانت درجات الردّة عن الثّورة متفاوتة من وزارة إلى أخرى، ولكن جميع الوزارات ومؤسات الدولة كانت تعيش هذا الوضع، بما فيها رئاسة الحكومة. وكان لجميع الوزراء، وبدون استثناء، مقرّبون من رجال النظام البائد ونسائه.
ولم تكن هناك جهة واحدة تحاسب الوزراء عن مدى التزامهم بأهداف الثّورة ومحاربة منظومة الفساد. لا في الحكومة، ولا داخل الأحزاب. حركة النّهضة هي الحزب الوحيد الذي أنشأ مؤسسة لهذا الغرض، لكنّها صرفت جهودها في الدفاع عن الوزراء والتبرير لهم، ولم تكن لها أي آلية تمكّنها من محاسبة أي من وزراء الحزب وإلزامه بما تراه في مصلحة الثورة والوطن.
كان غضّ الطرف عن رجال بن علي وعدم محاسبتهم عن جرائم اعترفوا بها، والتراجع عن عدد من المطالب التي رفعها شباب الثّورة، تجنّبا لصدام كان سيشعل النار في البلاد، محبطا لكثير من الشباب الحالم بالعدالة والديمقراطية، ففقدت الأحزاب المنتصرة للثّورة كثيرا من بريقها وشعبيتها، وأصبح تونسيون كثيرون، لا يثقون بقادتها، ولا يصدّقون ما ترفعه من شعارات.
لكن الخطأ الأكبر الذي ارتكبته الأحزاب الثلاثة المتحالفة في تشكيل الحكومة: حزب النهضة، والمؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطي، هي تقديم مصلحة الحزب على مصلحة الثورة. فلم تقم بجهد جماعي جاد في تحصين الثورة وترسيخها. كان همّ كلّ حزب من الأحزاب الثلاثة، الظّفر بمقاعد وزارية أكثر. ورغم صدق الأحزاب الثلاثة في الحرص على خدمة الثّورة وأهدافها، فقد تعاملت مع المناصب الحكومية وكأنّها غنيمة حزبية، لذلك، استأثر بالوزارة قياديو الأحزاب الثلاثة، وغاب عنها أنصار الثّورة من المستقلين.
كان إسناد الوزارات، بمثابة مكافأة لمن تعتقد قيادة الأحزاب أنّهم مناضلون، عانوا الأمرّين من نظام بن علي، لذلك، كان ترشيد العمل الحكومي، وتنسيق عمل الوزارات بما يخدم أهداف الثّورة، أكبر غائب في حكومتي الجبالي والعريض. وكانت تعليمات وتوصيات رئاسة الحكومة، فضلا عن صيحات الفزع التي أطلقها أنصار الثّورة، ضعيفة الأثر في عمل الوزارات، فالوزراء مناضلون مثل رئيس الحكومة، ورئيس الحكومة لم يخترهم، بل جاءت بهم أحزابهم.
لقد كان ومازال- صوت الحزب أقوى من صوت الثّورة، وحساب الحزب أولى من حساب الثّورة، وموقف الحزب هو المحدّد للمواقف والتحالفات.
كان الرأي العام الشعبي أكثر حرصا على الثّورة من الأحزاب المنتصرة لها، فقد توافدت على مقرّات الأحزاب المناصرة للثورة، ومكاتب الوزراء الجدد، أعداد غير قليلة من المسؤولين الشرفاء في مختلف مؤسسات الدولة والحكومة، مستبشرين بالثّورة، يعرضون خدماتهم على الحكام الجدد، قالوا إنّهم لا يريدون مناصب عليا ولا ترقيات وظيفية، ولكنهم حريصون على خدمة بلادهم وتخليصها من شبكات الفساد التي عملت مع النظام السابق. وقدّموا تقارير ووثائق مهمة حول واقع المؤسسات التي يعملون فيها. ورحّب بهم مسؤولو الأحزاب والحكومة الجدد، ولكنهم عجزوا عن الاستفادة من خبراتهم ومما قدّموه من معلومات، بل إنّ بعض هؤلاء دفع ثمن ذلك غاليا، ولم يحمه «حماة الثّورة» الذين التجأ إليهم، من دسائس منظومة الفساد. وتمّ إبعاد كثير منهم عن المواقع التي كانوا فيها، عقابا لهم على جرأتهم تلك، بل إنّ بعض تلك العقوبات كانت بتوقيع الوزير الذي استنصروا به.
لم يكتف رجال النظام القديم بما سبق، بل تسلّلت عناصره بأشكال مختلفة إلى مكاتب ومجالس المنتصرين للثّورة، سواء في الوزارات، أو حتى داخل الأحزاب. واستطاع هؤلاء من خلال الإمكانيات التي كانوا يتوفّرون عليها، ومنظومة معلومات وشبكة علاقات واسعة وأموال وإمكانيات ضخمة وضعت على ذمّتهم، أن يؤثّروا حتى في بعض القوى المنتصرة للثّورة، بل كانوا وراء بعض الخلافات والإنشقاقات التي حصلت داخل الصفّ الثوري.
في ظلّ هذا الواقع، جاءت الانتخابات، واكتشف التونسيون أنّ الحزب الذي عانوا من ويلاته طيلة ستين عاما، عاد ليحكمهم، فصرخ كثير منهم فزعين: أين الثّورة؟
٭ صحافي ومحلّل سياسي تونسي
علي بوراوي
المنصف المرزوقي آخر سهم في كنانة الثورة ؛ لذا على كل ناخب تؤنسي يؤمن بوقوع ثورة أن يمنحه صوته أو ليسجلن التاريخ أنكم لستم بعد إستثناءا عربيا و أنه لا يزال بينكم و بين عزة الأحرار مسيرة وعي.