الحقيقة والخيال في الاتفاق النووي

هنالك شبه بين عمل الروائي وعمل المحلل السياسي، يكمن في اعتماد الاثنين على الخيال في عملهما، فلا يستطيع الكاتب أن يصبح روائياً ناجحاً بلا خيال، كما لا يستطيع السياسي أن يقدم شيئاً من دون خيال يعتمد على تلمس الخطوات المتوقعة واستشراف المستقبل.
لكن هناك، بالمقابل، فارق رئيس بين الاثنين، ففي حين يعترف الأول للقارئ بأنه لا يقدم سوى سرد من وقع الخيال بغرض محاكاة الواقع، يقدم الثاني طرحه الممتزج بالخيال على أنه واقع حتمي مفروغ منه. من هنا يأتي المأزق الذي يجعل متلقي القراءة السياسية الاستشرافية يعاملها معاملة الواقع الذي استند أصحابه إلى حقائق ثابتة لا على خيال وافتراضات.
في هذا المقال سأحاول التعرض لما اعتبره فوارق واضحة بين الحقيقة والخيال في الموضوع النووي الإيراني، الذي بدأ يشغل مراكز البحث وصنع القرار أكثر من أي وقت مضى. من الحقائق مثلاً وجود مبادئ لاتفاق نووي بين الولايات المتحدة وإيران، وهو ما تم إعلان التوصل إليه في بداية إبريل الجاري، كما أن من الحقائق وجود دعم لإيران داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
الخيال هنا هو استسهال مقولات عن تحالف أمريكي إيراني، فالواقع أن الرافضين للتقارب مع إيران في الداخل الأمريكي ما يزالون أغلبية، ويمكن للباحث أن يرجع في ذلك الإعلام الأمريكي ووجهات النظر التي يعلنها أصحابها في مراكز البحوث، وعبر تصريحاتهم المعلنة، ويكفي أن تعلم أن هنري كسينجر وجورج شولتز وجيمس بيكر هم من أصحاب هذه النظرة.
يمكن ملاحظة التباين في وجهات النظر أيضاً، من خلال المناقشات البرلمانية كتلك التي تمـــت في 22 من الشهر الجاري، والتي عقدتها لجـــنة الشــــؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي، وسيطرت عليها أجواء عدم الثقة في الجانب الإيراني.
من الناحية الأخرى فإن لإيران سياسة واقعية قامت بفرض نفسها على بعض متخذي القرار في الولايات المتحدة، التي قدمت نفسها إليهم كدولة مفتاحية من أجل تمرير مشاريع مهمة في المنطقة، كدخول العراق وأفغانستان، وبعمل جاد يمكن القول بدون مبالغة أن هنالك ما يمكن تسميته بـ»اللوبي الإيراني» في أمريكا حالياً. بالمقابل، ولأن العرب يعتمدون في الغالب على الخيال، فقد استندوا إلى افتراضات مؤداها أن أمريكا تحاربنا مهما فعلنا، ولذلك فلا داعي لخلق قنوات تواصل مع أي مكون من مكونات الشعب الأمريكي، وهي النظرة التي استندت إليها تلك الدول التي بنت مشروعيتها على العداء المطلق للغرب، والتي اعتبرت أنه يجب وضع أمريكا وشعبها والاحتلال الصهيوني في سلة واحدة. أما من ظن أنه يعتمد على الواقعية السياسية من العرب فقد قاد بلاده إلى أن تكون مجرد ولاية إضافية للولايات الأمريكية، فأصبح لا يعصي لها أمراً ولا يرد لها مشروعاً.
لنترك العرب ونعود لموضوع الاتفاق النووي الذي بالمناسبة، لم يوقع بعد والذي لن يوقع قبل يونيو هذا إن وقع بالأساس. هل يمكن أن لا يتم التوقيع؟ بالتأكيد هنالك احتمال يعتمد بدرجة أكبر على التحركات الإقليمية، وعلى الحسابات الأمريكية والمراوغة الإيرانية، التي تلقت ضربة من السعودية ومن الولايات المتحدة في وقت واحد عبر «عاصفة الحزم» في اليمن.
صحيح أن الولايات المتحدة ليست جزءاً أصيلاً من هذه الحرب لكنها لم تعارضها، بل قدمت لها الغطاء الدبلوماسي والأخلاقي المطلوب، في رسالة لإيران التي ظنت لبرهة أنها وضعت العالم في جيبها. لكن على ماذا يتم التفاوض؟ إن إيران تشترط رفع العقوبات، وتعترف بأنها قد عانت كثيراً منها. لكن رفع العقوبات الفوري ليس جزءاً أصيلاً من الاتفاق، على عكس ما يروج له منظرون كثيرون، بل ترى الولايات المتحدة أن رفع العقوبات «التدريجي» إنما يكون بعد إثبات إيران حسن سيرها ونواياها تجاه المنطقة والعالم.
هنالك عقبات كثيرة أمام تفاهم إيران مع الولايات المتحدة والعالم، فهي ما تزال ترفض التفتيش في منشآتها النووية، وهو ما يجعل أي اتفاق بلا جدوى، لكنها نقطة يمكن تجاوزها، حيث أن فكرة الاتفاق لا تكمن في منع إيران من امتلاك أسلحة نووية، بل في تأجيل هذا المشروع. بين مزدوجين نقول إن هذا «التأجيل» الذي طبق سابقاً لم يمنع كوريا الشمالية من الوصول إلى سلاح نووي خلال عقد من الزمان. ولأن الولايات المتحدة صاحبة العصا والجزرة فهي تستعد في الوقت ذاته لأي مفاجأة، وهكذا يعلن البنتاغون في وقت المفاوضات ذاته عن إمكانية تطوير السلاح اللازم لقصف أي نشاط نووي إيراني غير مرغوب فيه. ورغم أن الأمر يبدو تلويحاً أكثر من كونه خياراً واقعياً لحرب مفتوحة، فإن روسيا، الحليف الأهم لإيران، بادرت إلى إمداد إيران بتحصينات مهمة قد تجعل مهمة التدمير صعبة أو مستحيلة.
بواقعية نقول إن خيار شن حرب أمريكية على إيران خيار مستبعد، حيث لم تعد التدخلات العسكرية مرغوبة في السياسة الأمريكية بعد المستنقعات التي جربتها، والتي كانت آثارها السلبية بكل المقاييس أكبر من إيجابياتها، لذلك فهي تلجأ بشكل أكبر للدبلوماسية ولسياسة الجزَر التي تعد إيران بفتح أسواق العالم أمامها وبتسليمها مليارات كان قد تم احتجازها في الخارج.
إيران تعتمد على هذه النقطة، لذا فهي تتمادى ربما في تصلبها، لكن واقعيتها التي تجعلها تتأهب لكل الاحتمالات، هي ما جعلها تشتري منظومة إس300 الروسية، التي تسلمتها بمجرد إلغاء قرار حظر تصدير الأسلحة لها. هذه المنظومة ستقيها من أي هجوم محتمل أمريكياً كان أو عربياً، وللتذكير فإن وقت تنفيذ الصفقة كان وقت انطلاق «عاصفة الحزم» التي لم يخف أصحابها أنها موجهة لإيران بدرجة اولى.
إذا كان لدى الولايات المتحدة سلاح ما، وإذا كان لدى إيران سلاح آخر موازٍ يعمل كواقٍ وساتر، فإن للكيان الصهيوني قدرة تشويشية تجعل استهدافها من قبل إيران صعباً، كما تقلل من كفاءة سلاح أس 300 الروسي.
(لا تنس أن الكيان الصهيوني ينسق من طرف خفي مع الروس الذين يتعهدون بأن أسلحتهم وأسلحة إيران لن توجه أبداً إلى تل أبيب). هذا ما تفعله الدول ذات النظرة الاستراتيجية، حين تنظر بعين الواقع لما يكفل لها أمنها ويجعلها تتحسب لكل مستجد واحتمال.
النقطة الأخيرة تكمن في الأسئلة التالية: مع التسليم برضوخ إيران وقبولها مبدأ التفتيش، كيف يمكن تفتيش بلد مترامٍ كإيران، علماً بأن التفتيش لن يكن فجائياً ولن يكون إلا لمناطق متفق عليها مسبقاً، مما يسهل من القدرة الإيرانية على خداع العالم؟
هذه الأسئلة ستقود إلى سؤال آخر حول من سيقوم بالتفتيش؟ وكالة الطاقة الذرية صاحبة التقارير المتضاربة (العراق نموذجاً)، أم لجنة أخرى للتفتيش تابعة للأمم المتحدة ومسيطر عليها من قبل جهات نافذة؟ من سيحدد حجم الخروقات؟ السياسيون أم التقنيون؟ أم ذلك الكيان الغامض المسمى مجلس الأمن؟
سنجد الحقيقة حين نستطيع إجابة هذه الأسئلة..!

٭ كاتب سوداني

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامح // الامارات:

    * من الآخر : ـ
    * ( القنبلة النووية الإيرانية ) كذبة كبرى ضحك بها ساسة وملالي ايران
    على ( الشعب الإيراني ) وطلع كله ف النهاية تضليل وتدليس فقط لا غير ؟؟؟
    * ( ايران ) استسلمت ( للغرب ) مقابل رفع عنها ( العقوبات ) الإقتصادية
    فقط لأن( اقتصادها ) هش وضعف كثيرا وكان على وشك ( الإنهيار ) التام ؟؟؟
    * شكرا

اشترك في قائمتنا البريدية