الدفاع الحضاري «المشترك» خيار أخير للأمن القومي

حجم الخط
0

ثمة إحساس مفاجئ لدى بعض قادة العرب بضرورة العودة إلى شعار (قومي) منسي هو معاهدة الدفاع العربي المشترك. ومن يجاهر بهذا الإحساس هم بعض حكامٍ، ربما يستشعرون أكثر من زملائهم الآخرين، بأخطار لا تهدد أنظمتهم ودولهم وحدها، بل تهدد الأمن القومي في مصطلحه الشمولي والتاريخي التراثي معاً. فلقد تحركت السياسة العربية عامة تحت شعار الأمن القومي هذا طيلة مراحل الصراع العسكري مع إسرائيل. لكنه كان صراعاً عقيماً لم يمنع الغزو اليهودي لفلسطين، لم يحبط المشروعَ الصهيوني بإقامة دولة إسرائيل، لم يوقف انتصاراتها العسكرية، لم يرد للفلسطينيين حقاً واحداً من حقوقهم المغتصبة. كما لم يعد معظم الأراضي المسلوبة من أقطار الجوار.
ليس في ذاكرة الدفاع العربي المشترك سوى ذلك المسلسل من انتصارات أوهامٍ استباقية آيلة إلى هزائم ومعاهدات مذلة. ومع ذلك لم يفقد هذا المصطلح العظيم جوهر صدقيته. إذ كان هو الممنوع الحقيقي عملياً طيلة ما دُعي بحقبة الصراع العربي الإسرائيلي. فما نُفّذ في ماضي تجاربه تحت شعاراته كان يرتدّ على مُنتحلي اسمه بكوابيس أحلامهم.
كأنما لم يفوزوا باستقلال أقطارهم (أقسامهم) عن الاحتلال الأوروبي، إلا بشرط مضمر، وهو أن يظل الاستقلال عن الأجنبي الخارجي مقترناً باستقلال الأقطار العربية نفسها عن بعضها. بمعنى أن الاستقلال الوطني سيكون هو العائق الأول في وجه الاستقلال القومي. هذه المعادلة الجيوسياسية حكمت مسيرة السياسة العربية المعاصرة وانعكاساتها المضطردة على قضايا الأمن قطرياً وقومياً. فكان تثبيت الكيان الإسرائيلي مصحوباً دائماً بنوازع المشروع الصهيوني في الغزو والتوسع، مع مؤازرة الغرب الفعالة عبر تدخلاته المستمرة في متغيرات السلطات الحاكمة وقراراتها الرئيسية في أقطار المحيط المشرقي خصوصاً.
واقع الحال هو أنه منذ أن تخلى النظام العربي الحاكم عن مبدأ الحرب مع إسرائيل لم يبق في المنطقة إلا الأمن الإسرائيلي، فهو وحده الذي تقاس بقية معايير الأمن لأقطار الجوار العربي بالنسبة إليه. كما لو أن أمن العرب بات مرتهناً عملياً بالمصالح الدفاعية للدولة العبرية. وبالتالي فقد سُحب كل حديث جدي حول الأمن القومي لأية دولة عربية، حتى لأكبرها وأهمها وهي مصر، وذلك منذ معاهدة كمب ديفيد. غير أنه بالعودة اليوم إلى أفكار حول تشكيلات دفاعية مشتركة ، أي متخطية حدود القطر الواحد إلى العديد من أنداده، هذه العودة لم يكن مسموحاً بها لو لم تتغير هوية الهدف. لن يكون تهديداً صهيونياً، بل عدواً شعبوياً هو الإرهاب، وإقليمياً آخر هو بعض نزعات من الفارسية أو العثمانية.
في هذه المرحلة التي تتوزّع فيها الحروب، والمهالك الفئوية والشخصية عبر أهم أقطار المشرق كيف يمكن أن يُشاد فيها نظام حمايات جماعي، من هي الدول المبادرة، والمرشحة، أو القابلة. هل سيكون لهذا النظام كيان سياسي جديد، جيش وسلاح شامل. فالمعروف أن الرئيس المصري والملك السعودي والأردني ومعظم دول الخليج. يمكن لهؤلاء وسواهم أن يشكلوا الهيئة السياسية للمنظومة الدفاعية المنشودة. أما بعد هذا ما هي خطة العمل؟. أية استراتيجية دفاعية أو هجومية؟. هل ستفتح جبهات جديدة هنا أو هناك؟. هل هناك حروب أخرى إضافية؟ وعندما تكون النوايا سليمة خالصة هل يمكن مثلاً وقف حرب عبثية من دون شن حرب أخرى؟
على كل حال لم تعد حكومات عربية محددة وبارزة هي وحدها الساعية وراء صيغ دفاعية مشتركة. فالتهديدات المحدقة بالعالم العربي، والنابعة معظمها من بين صفوفه، لا تستهدف قُمم دُولةً فحسب. بل هي الكيانات القائمة وقد بات تدميرها مطلوباً كلياً. وعلى رؤوس أصحابها جميعاً. هنالك شعوب عربية وإسلامية كاملة تجتاحها خيالات النهايات المرعبة، عما يحدث من الكوارث للبعض منها أو لجيرانها. فالحاجة إلى الحماية أمست قضية شعبية عارمة، وليست شأناً حكومياً فقط. وربما تؤجّل المجتمعات مشاريعها، حتى الثورية منها، لتصرف جهدها في لّم شتاتها واستعادة قوة تضامنها الذاتي. هكذا غدت مسألة الدفاع الوطني تعادل الدفاع الوجودي. وقد يدرك الحس الشعبي العام هذا التطور. والفارق ما بين دفاعيات شكلانية كانت تعقدها دبلوماسية الدول فيما بينها، وبين دفاعيات حقيقية تكاملية وجامعة لقواعد الشعوب في جبهات نظامية ضد مختلف قوى الاستبداد وأسمائه السياسية والدينية الزائفة.
وفي هذه اللحظة من انكشاف العالم العربي إزاء الأفظع والأبشع من شرور العصر، ومما هو من ذاكرة أزمانه البائدة، هل يمكن أن يتنادى بعض العرب للنهوض بمشروع إنقاذ، أن ينجدوا أنفسهم بأنفسهم، أن ينتشلوا مركب «الأمة» وهي على حافة الهوة من قبل أن يغور الجميع إلى القعر المظلم. فمن هم حقاً فرسان هذه الوثبة الجديدة، من هم رواد حملة الإنقاذ المنشودة؟
يبدو أن آمال العرب تعقد من جديد على تلك الصيغة التي عجزت ثوريات الماضي القريب عن جمع عناصرها والتوفيق بين مكوناتها. وكانت هذه الصيغة ولا تزال يؤلفها ثلاثي القوة الصانعة لنهضات إنسان التاريخ. إنها الحضارة والاقتصاد والأخلاق. وعالمنا العربي زاخر عامر بمفردات هذه المكونات، لكن عملية الجمع بينها والمؤالفة بين خصائصها كانت هي جوهر التحدي الذي عانته النهضة العربية لما بعد الاستقلال الوطني، دون أن تبدع تلك المتغيراتِ الإعجازيةَ التي تجعل الاقتصاد (المال) في خدمة الحضارة. وأن تضع الأخلاق حارساً إنسانياً على إنتاجهما، وقد تشهد هذه الأيام تمارين أولية على طريق اقتراح شبيه لهذه الصيغة الثلاثية. فهل يقوم نسر عربي جديد محلقاً بجناحي الحضارة والاقتصاد ما بين مصر والخليج؟ ولكن يبقى المكّون الثالث وهو الأخلاق، وهي إنسانية الحقيقة، متمثلة في موهبة التاريخ العظمى: أي الحرية. لن تنتظر الحرية إلى ما بعد إنجاز حضارة الرفاه، بل إنها الحرية المؤسسة للحضارة. و هي القيّمة على عدالة الاقتصاد.
لا ننس أن إحباط عهد النهضة الثانية المنقضية هي أن ثلاثية التقدم قد اسْتُخدمت أركانُها الثلاثة ضد بعضها في كل حدث عام. وتنافرت شعوبها فيما بينها تحت ظلال منعكاساتها السياسية. فلعبت الجيوش أدوار البدائل عن القادة المدنيين. بعد أن تم هدْر الثروات القومية في تفاهات الغرور والعبث الغرائزي والفردي.
إنها لحظة انتظار عربية شاملة لانقيام التصحيح التاريخي الموعود لمشروع الدفاع عن الأمن القومي، لعله سيكون معتمداً هذه المرة على الجدية السياسية لبناء الصيغة الثلاثية، باعتبارها هي الخلية القيادية العليا، راعيةً للأمن الوجودي.
هذا ما يحق لنا الكلام عنه وفيه، أما الواقع الآخر فله منطقه، وسيكون للفكر ما يقوله عنه كذلك.

مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية