الرقة في وجه القسوة

ليس أجمل من تأمل شروق الشمس عبر الغيوم البيضاء أو الرمادية المتناثرة في فضاء الخريف أو الربيع. يبدأ المشهد الساحر بتوهج عريض أصفر ضارب إلى الحمرة يتصاعدُ ويصيب أطراف السحب المتجمعة هناك فيؤجج أطرافها وكأنها توشك أن تحترق،غير أن مهرجانا عامرا بالألوان بين الأخضر و البنفسجي والأصفر الناري لا يلبث أن يحوّل الحريق الذي أوشك على الاشتعال إلى لوحة انطباعية صاخبة بألوان لا تخطر على بال رسام. مشهد خارق الجمال أتمّلاه في معظم الاصباحات الخريفية إلى نهاياته ثم أعود إلى سريري وأنا مُفعم بالمشاعر والأفكار التي أحملها مع نومي إلى أحلام لا أروع منها ولا أمتع.. إلا هذا الصباح . فمع الشمس التي شرعت تعلن عن حضورها البهيّ دوّت خلفي فجأة انفجارات قوية لصواريخ أو قنابل لم اعرف مصدرها ولا اتجاهها غير ان الدخان الأسود الذي تصاعد في المشرق وتضخّم وانتشر حتى كاد يُفسد مشهد الشروق بأكمله ومنه عرفت أنها الغوطة الشرقية هي التي تحترق وتفسد المشهد.
لا ادري لماذا لم يخطر على بالي في تلك اللحظة إلا هذه الفكرة: لو أنّ العسكري المُكلف بإطلاق تلك الصواريخ تمهل قليلاً قبل البدء بمهمته المريعة وخطر له أن يتأمل مشهد الشروق وما يبدعه من معجزات فنية خارقة البهاء، هل كان يتأخر أو يمتنع عن إنجاز مهمته وهو يواجه الطبيعة في أروع تجلياتها خوفاً أو شفقة عليها من أن يشوّه سحرها بقنابله؟ هل هذا ممكن له أو للآمر الذي يأمره أن يطلق النار..؟
لا شك أن تخيلاتي الرومانسية لن تستطيع إنقاذ المشهد لا لشيء إلا لأن تأثير جمال الطبيعة لا يقلب الموازين مع جميع الناس كي لا يبقى لديهم سوى ميزان الروح الجمالية حين يتواصلون مع الطبيعة ،فهذا الإنسان الذي صار أشبه بالوحش الكاسر بعد أن تدرّب طويلا على القتل والذبح ما شأنه مع مسألة الجمال كلها؟ هل هو إنسان طبيعي قابل للافتراض الذي خطر على بالنا؟
أذكر مثلا فيلما سينمائيا ظهر عقب سقوط النظام السوفييتي الصارم كان موضوعه يدور حول ضابط شاب مكلّف بالاشراف على إعدام الذين صدرت في حقهم أحكام الإعدام الكثيرة لا لشيء سوى لشبهةٍ في ولائهم للنظام الحاكم وكيف كانوا يُعرّون الضحايا من كامل ثيابهم قبل قتلهم ويأمرونهم بالإستدارة نحو الحائط الواقع خلفهم وعندئذ يُصدر الضابط المذكور آنفا أمرهُ بإطلاق النار على ظهر المحكوم عليه إلى أن جاء دور فتاة خارقة الحسن في ريعان شبابها إذ بدلاً من تنفيذ الأمر بالاستدارة نحو الحائط بسطت ذراعيها ثم رفعتهما قليلاً كمن يسترحم وهي تتقدّم بعريها الكامل وجسدها الشاب الرائع باتجاه صفّ الجنود المكلفين بإطلاق النار.. كان جسدها الفتي العاري يتوسّل بكل أطرافه وأعضائه مسترحما وهي تتلفظ بجملة واحدة أنها بريئة وكان جسدها يقول معها ما تقوله بكل ما في الجمال المهدد من صدق. ولكن البنادق التي سُددت نحوها كانت لا ترحم، فانطلق الرصاص القاتل وانطرحت الجثة الجميلة على الأرض..
ينتهي هذا الفيلم كما أذكر بمنظر الضابط الشاب الذي أمر بإطلاق النار، ومنه نفهم أنه كان يشغل هذا المنصب منذ عدد من السنين وأنه لم يعد في مقدوره تحمل أعباء هذه الوظيفة الوحشية فآثر النجاة بنفسه على ظهر حصانه بعيداً عن المكان القذر الذي كان فيه الى غير رجعة..
حين نعرف إذن كيف نربي جنودنا على استسهال عملية القتل كي يغدوا قتلة لا يتأثرون بجمال الطبيعة ولا بجمال المرأة المحكوم عليها بالإعدام ظلماً نفهم المغزى العميق لما اقترحه الكاتب اللبناني المعروف «أمين معلوف» في كتابه «اختلال العالم» أن نجعل دراسة الفنون الجميلة أهم مادة في البرنامج التعليمي والتربوي ذلك أن تنمية الحس الجمالي والذائقة الفنية لدى البشر عموماً هي خير وسيلة لخلق أجيال غير قابلة أن تتحول إلى وحوش كاسرة مفترسة وأن الرقة التي يمنحنا إياها التواصل مع جمال الطبيعة وجمال ما تصنعه الفنون على يد الموهوبين والمحبين هي التربية التي يمكن أن تنقذ العالم من الاختلال الذي يوشك أن يودي بكل شيء..

شوقي بغدادي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نعمان الواحدي:

    ماقاله البغدادي ينسحب ايضا على الشق المدني: طالب يقول لابوية ان المدرس لايعلمه تمام، فما كان من الاب الا ان قدم واهان المدرس. والحال ان الاسرة ايضا تخرج للدنيا العسكري، الضابط والمعلم والقبار.
    في الاسرة واجب التعلم لكن كيف؟ بزيادة الوعي وتقليل الحروب.

اشترك في قائمتنا البريدية