كيف يمكن إدماج الرمز في عوالم القصيدة، سؤال يفرض نفسه بصدد قصيدة «الكاهنة الأمازيغية» كإصدار إلكتروني بصري جديد للشاعر المغربي عبد السلام دخان. الرمز هنا يتسم بحمولة تاريخية وثقافية قوية، ذلك أن السيرة الشعرية الاستعارية تقترب في هذا العمل من الصرامة المثالية لـ»ديهيا» أو الكاهنة الأمازيغية التي كانت زوجة لزعيم إحدى قبائل الأمازيغ العظيمة المستقرة في جبال الأوراس. مات زوجها فتولت بنفسها تسيير شؤون القبيلة، واستتب لها الملك نحو خمس وعشرين سنة. ماتت وهي تواجه جيوش حسان بن النعمان (سنة 82 للهجرة 701/702ميلادي(. ولأن الشعر يعلمنا الإنصات للتاريخ ولتحولاته، وللذات في التباساتها وعواطفها فإن المنظور الشعري لهذه القصيدة يكشف مغامرة التأويل الشعري لهذا الرمز الأسطوري، ومحاولة بناء متخيل جديد وفق رؤية تنصت للذاكرة، وتنفتح على الراهن في الوقت نفسه. وهو ما يعلل نسغ الانزياحات وخلق عوالم القصيدة وشروطها الدلالية والإيقاعية؛ فالاستعانة بصورة المرأة الرمز كدلالة على استمرارية الحب، وإرادة التحدي لمواجهة مختلف التحديات التي تكشفها تفاصيل الحياة، ليس كنشاط للذات فحسب، بل كحيوية تعكسها الصورة الشعرية ودلالاتها الحسية.
إن الإدراك الشعري يستقي مقوماته الدلالية من الإرث الغني للكاهنة الأمازيغية كرمز حيوي من دون انقطاع، وبموجب هذه الاستعارة تتغير تمثلات الذات في علاقتها بالآخر، وفي الحضور العميق للذات الأنثوية، وفي مقاومتها لأشكال الهيمنة الذكورية، في ملمح قريب من الرومانسية الرمزية بما يدل على رغبة الشاعر في تشكيل قصيدة انطلاقا من الخبرات المعرفية، ومن وعي بأبعاد الذات الإنسانية في الفضاء العام، وفي سيرورة علاقتها بالآخر، مع رغبة صريحة في عدم اختزال صورة «ديهيا» في بعد تاريخي أحادي ووحيد. فالرمز هنا يتيح إمكانات لامتناهية للقول الشعري عبر الصورة الشعرية، وما تحمله من دلالات تتحول تبعا للحمولة الاستعارية، ولتوترات المجازات التي تفضي إلى التمسك بالحرية كشرط أساس لوجود الذات ولمقاومة الآخر الراغب في الهيمنة تحت ذريعة الحب.
قصيدة «الكاهنة الأمازيغية» ديالكتيك لحوار فعال يكشف طرائق فهم الذاكرة، وما تمنحه من تنغيم وحركة وتثبيت لوجود يتمظهر ليؤسس واقعا جديدا، ينفصل عن المعنى السابق لصالح معنى جديد تشكله سياقات القصيدة وامتداداتها الدلالية. وقد عمل الشاعر عبد السلام دخان على كشف القوة الأسطورية لشخصية «ديهيا» الأمازيغية، عبر رؤية تتحرر من سلطة النموذج لصالح تركيبة مجازية اكتسبت جاذبيتها انطلاقا من قوتها الرمزية ومن متوالياتها التركيبية.
انصهار السيرة في قصيدة ليس عملا سهلا، خاصة أن الشاعر يعمد إلى ملء كأس المعنى عبر استحضار العلاقة الشائكة بين الذات والآخر، ونسج توترات جديدة تحاكي سيرة «ديهيا» وتنزاح عنها في الوقت نفسه، سواء في الغنائية الطافحة في القصيدة أو في جعلها امرأة عاشقة للأرض والإنسان في الآن. ولا يمكن والحالة هذه لم شمل المعنى في مقطع شعري من دون الآخر، لأن القصيدة لا تحاكي إلا بنيتها ومتخيلها الذي جعلها في حضورها الكثيف حاملة للألم والقلق، وإدانة لتاريخ النسيان وفق ما يراه الشاعر عبد السلام دخان الذي جعل السيرة تخرج من سلطة اللغة الأم لصالح لغة أخرى تستمد مشروعيتها من الإحالة القصدية التي تستحضر التاريخ الأمازيغي كرافد حضاري وجمالي، ليس من أجل الوقوع في شرك القول التاريخي، بل من أجل خلق سيرورة تأويلية للرمز وخلق بنى تركيبة جديدة قادرة على تجديد العلاقة بالحب كتجربة تنشد الصفاء المفقود.
كل شيء يحترق بنيران الحب في قصيدة «الكاهنة الأمازيغية» التي تحمل معاناة المرأة، وإمكان الانتصار للحرية ضد الشقاء، بل إن دائرة الاتهام تتسع وتتجاوز الملفوظ الشعري لتشمل أهواء الواقع، والرفض، والألم، والاستبداد الذكوري. ولتصبح القصيدة وفق منطوق القصيدة خروجا من الصمت، نحو الكشف عبر تحولات الذات وهي تصارع استبداد الآخر. لذلك تكتسب هذه القصيدة حركة سريعة، وكوة لنشاط المرأة وهي تقاوم سهام الهزيمة، وأعباء الحب. غير أن صورة «ديهيا» في القصيدة لا تماثل المحكي التاريخي؛ لأنها تستند إلى منطوق التجربة بعيدا عن سلطة المحاكاة. ربما رغبة في تحويل الأحاسيس إلى تشكيل شعري ينتج حركته الخاصة وإيقاعه ارتباطا بنسيج القصيدة وبتقاطعاتها التركيبية والدلالية.
وبذلك يصبح زمن «الكاهنة الأمازيغية» مؤثراً في شجرة الحياة ومنتجا للثنائيات المتقابلة: النار/الحطب، القلعة/التخوم، الأرض/السحاب، الحضور الغياب، الجبال/ الموج. وتبعا لهذا السياق يتشكل جسد «ديهيا» بين الماضي والحاضر، بين الصور الواقعية والصور المتعالية. وهذه الصور الميتاواقعية تبرر نسيج المعنى لذات المرأة التي وصفها الشاعر بالباذخة الجمال، فهي فردوس الأبناء العاقين، والجسد المحرم على الآباء، بل إن للكاهنة الأمازيغية تبعا للسياق التعبيري للشاعر صفات فانتاستيكية كأن تتوقف الأرض عن الدوران بغيابها. فمركزية الحضور هذه استعارة دالة على أهمية حضور المرأة في الحياة، وفي الظواهر التعبيرية. ولا يمكن استحضارها خارج أدوارها، وخارج جروحها العديدة.
وعليه، تصبح «الكاهنة الأمازيغية» لعبد السلام دخان إمكانية لتجديد حضور المرأة في أنساقها المتعددة، وفرصة لتوظيف الإحالة في جسد القصيدة، واستدعاء المغيّب نحو فن الشعر. ليصبح مجيئها إمكانية لكشف مخزون الذاكرة وقوتها الرمزية، وقدرتها على منح القصيدة طاقة استثنائية تجعل من التمثل الشعري لـ»أوسار» مصدرا لثراء المتخيل وكشفا لعظمة المرأة الأمازيغية ولتاريخها المشرق.
باحث مغربي
محمد العناز