وقفت السيارة التي أقلتنا أمام جسر ضيق لا يكاد المرء يرى نهايته. تشد هيكل الجسر قضبان فولاذ تهتز بفعل الرنين حين تطأ العجلات مكانه البارد فوق المياه التي كنت أظنها لمدة طويلة هي نار. سألت أبي عند توقف السيارة التي تقلنا أمام الجسر، تنتظر مرور سيارة مقبلة من الجهة المقابلة، ما هذا الذي نقف عنده؟ أجاب وهو يستيقظ من غفوته، نار… مجرد نار. كانت الحشائش تظهر عند الحواف ولا يمكن رؤية سطحه، أمي مخدرة بفعل النوم، حيث المسافة الطويلة من مدينة القامشلي إلى دير الزور جعلت المدى يتبدد ويظهر سرابه في الزوايا. السيارة متوقفة وتكاد تغفو في انتظار مرور سيارة مقابلة ظهرت لنا بعد حين، إنها شاحنة متوسطة، تسير على مهل فوق الجسر وإلى جانبها غجرية تمتطي حمارا يحمل قربتي لبن، تهف من وقت إلى آخر ظاهرة الرطوبة، وشَوَهات الشمس تضرب وجهها، تجعله مديناَ للطبيعة بشكل أقرب أن يكون بدائيا. حين اقتربت منا ظهرت ابتسامتها وميلان وجهها وشعرها، مع التهنئة بحب غامض مجالا لعينين واسعتين سوداوين أن تشبكا معا تصورا هو الترحاب أننا الآن في دير الزور.
ما كنت لأتخيل كيف سيكون حال النار في باطن ذلك الجرف الحاد، أين تجري وما هو سعيرها. أدركت حين مررنا فوق الجسر أن إحدى حالات النار هو الموت، فمن يلقي بنفسه من هنا إلى الأسفل سيذهب إلى مجهول هو سحر النار في الأفلام التاريخية، أيام الإسكندر وهرقل. لم تستمر هذه الصورة في مخيلتي لأن الغجرية علقت فيها ولم أستطع التخلص من وجهها لزمن طويل. شعرها يرف وهي تسير ترطن بأغنية برية، حولها نار وهشيم. نظرت نحوي بطرف عينها وهي ترى أنني بلهفة واسعة لها.
تخلصنا من الظاهرة البعيدة التي كان اسمها قبل ست ساعات نصيبين/القامشلي، ومن الجبل السماوي الذي يمر عند سفحه من وقت إلى آخر قطار الشرق على سكة حديد، في الليل أسمع صوته وتختفي الظاهرة خلف أشجار كثيفة تتحول بفعل البعد إلى سؤال اللامعنى: ماهذا الذي نحن فيه؟ كان امتداد وبراري يرسمان السطح بشكل غير معقول. براري القامشلي، البسيطة، تلك الأمكنة، حين لم يكن مكان لأرض كروية، كان مسطح كبير يتحرك فوقه إنسان الشرق، من دون كهوف، يبحث عن المنبع الغائب. كان شعرها يرف وهي تراني بعينها المائلة.
سلكنا الطريق عند الصباح الباكر حين كانت الشمس تسقط على القامشلي، يتعلق نسيجها الخفيف على عمارات الطين وبناية صفراء عالية الجدران قبالة البريد تتلون بلون أشعة لمخلوقات قادمة من فلك بعيد. ملائكة وحياة برمتها هابطة من السماء التي ليست إلا مسرحا يعرض في عمقه معنى الحياة الأزلي والهجرة والإقامة. لم أكن أصبر على الوصول إلى دير الزور فهي مدينة كانت قائمة على مرتفع سمعت عنه في ما بعد أنه أزلي.
متى نصل؟ كنت في المقعد الخلفي، في الطريق كنت أقف بجسدي الصغير وأدفع مقعد السيارة الأمامي بيدي كي أزيد من سرعة السيارة ونصل أبكر. حين تمر بنا سيارة مقبلة من الجهة المعاكسة يختلط الهواء وتضطرب صورة الشمس التي أمست ساخنة واستقرت كي تلهب قليلا الأرض, تصيب الوجوه الجميلة وقططها البرية تموء بعيون مائلة مرحبة بابتسامة حارة. يا هلا، تضرب عصاها المرنة ما هو أمامها، وهي لا تضرب إلا لتعرض أنوثة الصحارى التي لا حد لها.
ثم نسيت
مدخل الجسر هو مدخل المدينة من جهة الجزيرة السورية كي تعبر بنا السيارة إلى مدن الشامية. هناك البدو والخراف، اللهجة الديرية في الزوايا، وفي المقاهي المتناثرة على النهر تطوف وما كنت لأدرك أنه نهر كان قد أجابني إنه نار، لكنني بعد سنوات العذاب اللاواعي، في البحث عن أصل ذلك الجواب، اكتشفت أنه عنى «نهر» وليس «نار»، كما سمعت، وهو خطأ النوم في النهر ويقظة النار في مسامعي. تحركت السيارة على مهل فوق الجسر الذي راح يهز العجلات القلقة المترددة، هل تتقدم العجلات أم تقف، أم تعود، كي لا يهبط بنا، فهو جسر لين ضيق ترفعه عن الأرض قضبان فولاذ، تتواطأ مع الرنين السري للخبايا التي تقطن نفسي. تذكرت لعبة النطة في باحة الشارع الذي تركناه في القامشلي. كانت ابنة الآغا «تاج» ترفع الحبل بيدها إلى الأعلى كي تقفز عليه جوزفين منشدة «آبيك بيك بيكا» قطع، تتوقف ثم تتابع القفز قائلة «آراح لاي شتيكا» الحبل يدور حول جسدها، ثم يتوقف، نوسان الحرب والسلم، راح يهز تلك العبارة في خيالي وإذ ما كان منا إلا أن توقفنا. كنا جميعا داخل السيارة نتوافق مع رنين عمود الجسر الذي راح يخفق، كما قلب محب يهزنا برقصة جماعية. قالت، هنا، للسائق أن يتوقف: توقف. توقف هنا عند منتصف الجسر، ثم خرجت، وضعت العباءة في المقعد الخلفي، نهضت وإذ رآها أبي تفعل ذلك اقشعر جسده، وكذا فعل السائق الذي دفعته الدهشة إلى أوج لم يكن يتوقعه. فتح الباب وخرج أيضا، وما كان من الجميع إلا أن حرر النفس تحت الغيم الصافي، والسماء الناصعة راحت تدور.
هل ندبك أم نرقص؟
توقفت الغجرية عند نهاية الجسر واستدارت نحونا. ما نفعله هو حياتها. عادت تركض عند رنين الموج. تقفز سمكة بعينين ناعستين مبتسمة، ويقصد الجسر آهاته بنقرات طبل بعيد. وصلت إلينا وأفلتت الحزام، جعلت الثوب ينتفخ بمرتفعات تكشف ساقيها، وإذ نحن هكذا هطل علينا المطر. مطر غزير.
لم يهطل! لأن الشمس لديها الفضول أن ترى من بين غيومها الوهمية إلى رقص عند منتصف الجسر، حول سيارة متوقفة. راحت الأخرى تدور ويكشف الدوران جسدها الصامت، من دون تأويل، إن الجماد ملك أخيرا روحه النائمة. تنجذب بالمد نحو هنا وإلى هناك، حتى كان من الجميع أن رأى كيف ترتفع عن الأرض متجاوزة القضبان المائلة، متجاوزة سمة الجسر، نحو الفضاء، نقف وننظر إلى الفن الذي يحول المعقول إلى لا معقول. كذلك الجسر أخذ يسكن وهو يتأمل، رغم الاضطراب الذي حوله إلى شظايا متناثرة من القوة والهيام في حب المدينة ونهرها الذي لن يقول أحد عنه إنه ينبع من آرارات ويصب في العراق. أنا، كما ترون هنا، لا أتحرك ولا أنبع. مصاب بدهشة الحب الأولى.
قاص سوري
حسين سليمان