■ يقول أوكتافيو باث (Octavio paz): «نلفت الانتباه إلى أننا نعني بالصورة، كل الأشكال الكلامية جملة كانت أم مجموعة جمل يتلفظ بها الشاعر ويشكل مجموعها القصيدة، هذه التعابير الكلامية صنفتها البلاغة وتسمّى التشابيه، الاستعارات، الرموز، المجازات»
من هذه الحافة يرى أوكتافيو باث أن دراسة الصورة ، تعني دراسة كل هذه الأنواع البلاغية. ووجبت الإشارة بداية، في هذا المقام، إلى أن جل التنظيرات الحديثة في مجال الأدب والتي نظرت للموضوع، اعتبرت الصورة نشاطا تخييليا في الأساس. وهي (الصورة) عملية ذهنية خالصة تنقل « عقدة « وجودية معينة في لحظة رمزية جد مكثفة .
ومع كل هذا التقارب بين المنظرين الجدد في توصيف الصورة، سيحاول كل واحد منهم طبع مفهومه بخصائص مرجعيته الفلسفية . فسارتر، مثلا، سيربط بين الوعي الخيالي والقصدية. يقول: «لن تشير إذن كلمة الصورة إلا إلى علاقة الوعي بالموضوع، وبعبارة أخــــــرى إنها طريقة معينة في ظهور الموضوع أمام الوعي، أو إذا شئنا أنها طريقة معينة يسلكها الوعي لكي يمنح لذاته موضوع».
أما باشلار فقد أسس مشروعه الفلسفي ككل انطلاقا من مقولة «الخيال الحلمي L’imagination onirique». إن الصورة بالنسبة لهذا الرجل ما هي إلا نتاج محض للخيال المطلق، وإن الخيال الإنساني يظل جامدا ما لم يسقط مكوناته على العناصر المكونة لكوسمولوجية الكون : الماء ـ الأرض ـ الهواء ـ النار.
وعلى هذا الأساس سيقسم باشلار الخيال إلى «خيال صوري» و «خيل مادي»، يتعلق الأول « بالصور المرتبطة بالظواهر الهوائية «، أما الثاني فيرتبط « بالتأملات والأحلام وكذا أحلام اليقظة المتجهة نحو الماء والأرض. وخلاصة هذا المشروع، هو أن الخيال عند باشلار، أصبح ملكة لتغيير الصور، لا تكرارها، ملكة للخلق والابتكار لا الإعادة والاستنساخ.
وتبقى « شعرية المتخيل» لدى جان بورغوس ، من المشاريع الرائدة في مجال التنظير للمتخيل الشعري وللصورة التخييلية. فالصورة بالنسبة إليه دليل للحظة استشرافية، عكس الاستعارة التي تذكرنا بالماضي، يقول إن الصورة « منفلتة باستمرار من كل دلالة ومحيلة دائما على شيء آخر، تهيئ ، أو تسهم في تهيئة واقع آخر غير ذاك الذي كان من المفروض أن يمثله الكلام.
ومن ميزات الصورة عند هذا الرجل، كونها تفتن لأنها تسمح بالرؤية والحياة حين لا نتوقعها، بهذه الفتنة يلعب النص، مهما كانت منابعها، ومهما كانت غاياتها، بل ولربما تحدَّد هذه اللعبة الوظيفة الشعرية، خارج مسالك الأدب المطروقة.
وفي الشعرية العربية الحديثة، سوف يؤسَّس النظر إلى الصورة الفنية، باستحضار الدرس البلاغي العربي القديم، كوعي ساهم بلا شك في خلق وعي بويطيقي، ينظر إلى التصوير الشعري بكثير من التبرم.
ففي سبيل تمييزه بين التشبيه والصورة، يعتبر أدونيس الصورة الفنية ممارسة تخييلية للخلق والإبداع والنفاذ إلى عمق الأشياء، على عكس التشبيه الذي يكتفي بنقل الأشياء كما هي، أي في سطحيتها. إن الصورة عنده، تجربة « رؤياوية» ، فيما التشبيه تجربة « نمطية «
ويقول في هذا الإطار: « التشبيه بين طرفين محسوسين. إنه يبقي على الجسر الممدود بين الأشياء. فهو لذلك ابتعاد عن العالم. أما الصورة فتعدّم هذا الجسر لأنها توحد بين الأشياء، وهي إذ تتيح الوحدة مع العالم تتيح امتلاكه. لكن العالم يبدو من خلال التشبيه مشهداً أو ريفاً، وتبعاً لذلك، تبدو فيه علاقة الإنسان بالعالم باردة وآلية. فشعر التشبيه ينظر إلى الأشياء باعتبارها أشكالا لا معاني أو وظائف ، هو إذن لا يمتلكها، لا يتوحَّدُ معها، لا يقبض عليها، هي التي تفرض، على العكس، وجودها على شاعر التشبيه، وتمتلكه، يصبح هذا الشعر حين ذاك ملحقاً بالعالم لا سيداً له».
والحق إن امتلاك الأشياء والعالم، انطلاقا من هذه الرؤية ، لا يتحقق إلا من حافة الصورة/الرؤيا ، تلك التي لا تتشوف سوى للمستقبل وهي تشع الضياء في الأشياء ، يقول أدونيس مرة أخرى :» تتيح لنا الصورة أن نمتلك الأشياء امتلاكا تاما، كما أشرت، فهي، من هذه الناحية، الأشياء ذاتها ، وليست لمحة أو إشارة تعبر فوقها أو عليها. وامتلاك الأشياء يعني النفاذ إلى حقيقتها فتتعرى وتتلألأ في النور، تصبح القصيدة القائمة على هذه الصورة أشبه بالبرق الذي يضيء جوهر العالم وخيلاءه، هكذا تكون الصورة مفاجأة ودهشا ، تكون رؤيا، أي تغيير في نظام التعبير عن هذه الأشياء.»
وإن من بين ما تراهن عليه الصورة في هذا المشروع الحداثي، هو الخلق والإبداع بهدف إحداث الدهشة الضامنة لديمومتها. والصورة بهذا المعنى ليست تشبيهية ناجمة عن المقاربة بين شيئين، أو المقايسة بينهما، وإنما هي ابتكار على أساس أنها تجمع بين المتباعدين، ليست الصــــورة هنا « مجرد تقنية بلاغية ، وصفا، إنها تبدو على العكــــس، بدئــية تنبــــثق من الحركة نفسها التي ينبثق بها الحـــدس الشعري، وهي عصية علـــى الإحــــاطة بها عقليــــاً أو واقعياً ، ذلك أنها تنفلت من حدود العقل والواقع، لأنها تشير إلى ما يتجاوزها، إنها ضوء يخترق ويكشف فيما يتجه نحو المجهول، الصورة هنا تصير أي تغيير».
٭ شاعر وكاتب مغربي
محمد الديهاجي