بغداد ـ «القدس العربي»: تعد التظاهرات الأسبوعية الداعية إلى إصلاح الأوضاع في الدولة العراقية، والتي بدأت في منتصف عام 2015، ودخلت الآن سنتها الثالثة، إحدى أبرز مظاهر إصرار الشعب على ممارسة حرية التعبير عن حاجاته وتطلعاته المشروعة لإصلاح أوضاعه المنهارة.
وإذا كانت مطالب التظاهرات الجماهيرية الواسعة التي تنطلق كل جمعة في بغداد والمدن العراقية الأخرى، تتركز على الدعوة لتصحيح العملية السياسية عبر بناء إدارة كفوءة ونزيهة للحكومة والبرلمان والقضاء، وضرورة تقديم الخدمات الأساسية للشعب، ومحاربة المحاصصة الطائفية السياسية، إلا ان أبرز أهدافها محاربة الفساد والدعوة لمحاسبة الفاسدين من سراق المال العام من مافيات وأحزاب، ممن نهبوا العراق وأوصلوه إلى حافة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي.
وأخذت التظاهرات، أشكالا وأساليب مختلفة للضغط على الحكومة والأحزاب الحاكمة والبرلمان، ومنها تجمعات المتظاهرين في الأماكن البارزة وسط بغداد وباقي المدن في كل جمعة، مع القاء الكلمات ورفع الشعارات وترديد الهتافات، أو الاعتصام أمام أسوار المنطقة الخضراء ومقرات حكومات المحافظات، أو اقتحام البرلمان ومقر رئيس الحكومة في المنطقة الخضراء.
ومع ان التظاهرات بدأت بأعداد محدودة من الناشطين والمثقفين في التيار المدني ومنظمات المجتمع المدني، إلا انها توسعت لاحقا لتشمل تيارات سياسية مهمة في مقدمتها التيار الصدري ذو القاعدة الشعبية الواسعة الذي أضافت مشاركته، زخما قويا للتظاهرات التي اتسعت وأصبحت تضم قاعدة واسعة من الجمهور، ولتؤكد ان التظاهرات ليست ترفا بل هي آلية فاعلة وضرورة تعبر عن معاناة وحاجات ملحة حقيقية للشعب.
محاولات قمع التظاهرات
ورغم الطابع السلمي للتظاهرات وحرصها على طرح المطالب الإصلاحية المعبرة عن حاجات المجتمع، وتجنب العنف او الصدام مع الأجهزة الأمنية، والابتعاد عن الحاق الضرر بالممتلكات العامة والخاصة ومصالح المواطنين، إلا ان السلطات الحكومية قامت بمحاولات مستمرة لإجهاض هذا الحراك الشعبي الذي أزعج بعض المسؤولين الحكوميين والسياسيين المتورطين بالفساد وسوء الإدارة. وقد تنوعت أشكال الضغوط مثل التصدي لبعض التظاهرات من قبل الأجهزة الأمنية وعمليات ضرب أو خطف بعض الناشطين البارزين لإرهاب الآخرين، ووصلت إلى حد اغتيال العديد منهم على يد جماعات مسلحة مجهولة الهوية.
ولم تخل التظاهرات من وقوع مصادمات بين المتظاهرين والقوات الأمنية، وخاصة عندما حاول المتظاهرون مرارا، اقتحام مقر الحكومة والبرلمان في المنطقة الخضراء وسط بغداد، وسقط إثرها العديد من القتلى والجرحى، ومن ذلك مقتل أربعة متظاهرين وجرح حوالي 80 خلال تظاهرة يوم الجمعة 20 مايو/ايار 2016 جراء إطلاق نار وقنابل مسيلة للدموع من قبل القوات الأمنية لتفريق المتظاهرين الغاضبين الذين حاولوا دخول المنطقة الخضراء.
وفي إطار الاستهداف الشخصي للناشطين، تعرض العديد من قادة ومنظمي التظاهرات، إلى حملة منظمة من الاستهداف عبر عمليات الاعتداءات والتهديدات وصولا إلى الاغتيالات، دون إعلان الأجهزة الأمنية عن هوية الجهات التي تقف وراء تلك العمليات.
ففي بغداد اغتال مسلحون الناشط في التظاهرات خالد جميل رضا العكيلي عندما هاجموه في بيته في منطقة المعامل شرقي بغداد، وأطلقوا عليه النار من مسدسات كاتمة للصوت. كما تم اغتيال ناشطين آخرين دون معرفة الفاعلين.
وفي البصرة جنوب العراق اغتيل صبيح قاسم شيخ عشيرة الكرامشة والناشط في التظاهرات، بانفجار عبوة في سيارته. كما تعرض الشيخ عزيز الحلفي إلى محاولة اغتيال أصيب على إثرها بجروح خطيرة. وهو من النشطاء الذين شاركوا في التظاهرات ضد الفساد والمفسدين في محافظة البصرة.
وفي البصرة أيضا، تعرض الناشطان أحمد النجم وأحمد التميمي، إلى محاول اغتيال بمسدسات كاتمة للصوت من قبل مسلحين يستقلون سيارة مسرعة. وكان الناشطان متوجهين لإجراء لقاء في إحدى الإذاعات المحلية حول اعتصام المتظاهرين أمام المحافظة عندما تعرضا إلى محاولة الاغتيال.
وقال الناشط حيدر سلام، أحد ناشطي البصرة المشاركين في التظاهرات المطالبة بالحقوق والحريات «أن محاولات الاغتيال التي تعرض لها بعض الناشطين لن تخيفنا، وأننا لن نتنازل عن مطالبنا مهما تعرضنا إلى اعتداءات أو مضايقات».
ومن التهديدات والضغوط الاخرى التي تعرض لها العديد من قيادات ونشطاء التظاهرات، التهديد بالتصفية أو الاعتقال أو رفع دعاوى قضائية ضدهم، اضافة إلى الخطف كما حصل للنشطاء جلال الشحماني وعماد العراقي واياد الرغوي وعلي الذبحاوي وعماد طه وعلي هاشم وآخرين، الذين ما زال بعضهم مختفيا منذ اكثر من عام.
وفي 7/5/2017 قام مسلحون مجهولون يقودون عجلات رباعية الدفع، باقتياد سبعة طلاب من الناشطين في تظاهرات ساحة التحرير، من الشقة التي يسكنون فيها وسط بغداد، واقتادوهم إلى جهة مجهولة، وتعرضوا لسوء المعاملة والتهديد وقد أطلق سراحهم بعد حملة تضامن معهم.
كما اختطفت الصحافية والناشطة أفراح شوقي، من قبل مسلحين مجهولين من منزلها في منطقة السيدية جنوب غربي العاصمة بغداد، في (26 كانون الأول/ديسمبر 2016) وتم إطلاق سراحها لاحقا بعد تدخل رئيس الحكومة حيدر العبادي، دون الإشارة إلى الفاعلين.
وتحدث المدرس الناشط عناد الفتلاوي من كربلاء، انه يتعرض إلى تهديدات وضغوط مستمرة لمنعه من المشاركة في التظاهرات، وانه تعرض إلى التحقيق معه في مدرسته عدة مرات بحجج مختلفة. وذكر ان القائمين بالتحقيق معه ينتمون إلى أحزاب السلطة، مؤكدا ان تظاهرات الناس في كربلاء التي يشارك فيها الرجال والنساء، هي ضد الفاسدين وسارقي المال العام، وللمطالبة بإلغاء مفوضية الانتخابات وانتخاب مفوضية محايدة وليست خاضعة للأحزاب الكبيرة.
وأدان المرصد العراقي للحريات، التهديدات التي يتعرض لها الناشطون في التظاهرات لإجبارهم على ترك التظاهرات، ومنهم الأكاديمي رعد الكعبي الذي تم منعه من إجراء اللقاءات مع وسائل الإعلام عن التظاهرات.
وقال رئيس لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب أرشد الصالحي لـ «القدس العربي» أن لجنته تتخوف من التصعيد في استخدام القوة ضد المتظاهرين، وتخشى ان يتحول إلى اسلوب جديد في التعامل.
وأشار إلى ان «حق التظاهر مكفول للمواطنين وفق المادة 38 من الدستور والمتظاهرون يرفعون مطالب مشروعة أيدتها المرجعية والشعب، ولم نلحظ استخدام المتظاهرين لسلوك سلبي مثل التعرض للأملاك العامة أو الاعتداء على قوات الأمن، لذا لا نرى ضرورة لاستخدام القوة ضدهم».
قيود حرية الرأي
وإزاء تنامي التظاهرات وعدم نجاح وسائل الترهيب والترغيب في منع استمرارها، فقد طرحت بعض الأحزاب الفاعلة في السلطة والبرلمان، عدة مشاريع قوانين للحد من هذا النشاط الجماهيري والقضاء عليه، ومنها ما يسمى بـ»قانون حرية الرأي والتظاهر» الذي يهدف إلى وضع العراقيل والقيود أمام تنظيم التظاهرات ويعاقب المشاركين فيها بعقوبات شديدة. ورغم ان القانون تم وضعه منذ سنوات من قبل الحكومة وطرح مرارا في البرلمان لإقراره، إلا انه قوبل بحملات رفض وانتقادات جماهيرية وسياسية، باعتباره ينتهك حرية المواطنين في التعبير عن آرائهم ومواقفهم الواردة في الدستور.
واستجابة لضغوط الشارع، فقد طالب رئيس البرلمان سليم الجبوري، بالتريث في إقرار قانون حرية الرأي لحين دراسة الاعتراضات المقدمة عليه من الناشطين والقوى والمنظمات المدنية والسياسية.
وكانت العديد من منظمات المجتمع المدني في العراق، رفضت اقرار البرلمان لمشروع «قانون حرية التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي» مؤكدة أنه مخالف للدستور والحريات. وعقدت منظمات المجتمع المدني مؤتمرات وندوات صحافية ولقاءات مع وسائل الإعلام، إضافة إلى زيارات المعنيين ومنهم لجنة حقوق الإنسان النيابية بهدف منع إقرار القانون بصيغته الحالية وضرورة تعديله.
وتقول الناشطة والإعلامية افراح شوقي ان «النقاط التي سجلت على القانون تعتبر انتهاكا للدستور والحريات وتحد من النشاط المدني، خاصة ان التصويت على القانون يتزامن مع ثورة تظاهرات الإصلاح التي يشهدها العراق، كما يتعارض مع الدستور العراقي في مواده 38 و46».
يذكر أن المرجعية الدينية وقوى سياسية وشعبية كثيرة، حذرت الحكومة من مخاطر إهمال مطالب المتظاهرين أو إساءة التعامل معهم، ما قد يترتب عليه تحول التظاهرات إلى اعتصامات وإعلان العصيان المدني الذي ستكون له نتائج سلبية.
الحريات في إقليم كردستان
ويلاحظ ان التظاهرات الإصلاحية لم تقتصر على وسط وجنوب العراق فقط، بل امتدت إلى إقليم كردستان شمال العراق الذي يتمتع بوضع أفضل من باقي المناطق، حيث وقعت تظاهرات حاشدة في الأعوام 2015 و2016 و2017 للمطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية ورفض الاستقطاعات في رواتب الموظفين، إضافة إلى رفض الفساد واحتكار السلطة، ورفض تعطيل برلمان الإقليم.
وبالتزامن مع حملة الاستفتاء على استقلال كردستان عن العراق في 25 /9/2017 تعرض العديد من النشطاء الكرد المطالبين بتأجيل الاستفتاء، إلى ضغوط وخطف واعتداءات، بهدف اسكات الأصوات المعارضة للاستفتاء.
وذكرت مصادر مطلعة في السليمانية شمال العراق لـ»القدس العربي» ان الناشط الإعلامي البارز فرهاد سنكاوي، قد أطلق سراحه في أعقاب قيام جماعة مسلحة باختطافه من منطقة سنكاو غرب السليمانية. وتعرض خلالها للضرب والإهانة والتهديد بسبب معارضته للاستفتاء، إلا ان الأجهزة الأمنية تمكنت من إطلاق سراحه لاحقا دون التطرق إلى الجهة الخاطفة.
وظهر سنكاوي في 8 آب /اغسطس الماضي إلى جانب عدد من الشخصيات عند الإعلان عن تأسيس حراك يحمل اسم (لا للاستفتاء .. في الوقت الحاضر) يطالب تأجيل الاستفتاء في الإقليم.
كما تعرض عضو برلمان الإقليم عن حركة التغيير بهار محمود إلى اعتداء من مجهولين خلال تواجده في مدينة شقلاوة التابعة لأربيل، دون تحديد هوية المعتدين. وذلك على خلفية رفض التغيير إجراء الاستفتاء قبل تفعيل البرلمان المجمد.
وضمن السياق ذاته، هاجم شبان مجهولون، إمام مسجد جمجمال ورجل الدين الكردي المعروف، ملا سامان سنكاوي، واعتدوا عليه بالضرب. وأعلن الإمام في تصريحات، إنه تعرض للضرب بالأيدي في منطقته سنكاو غرب السليمانية، ما أسفر عن إصابته بجروح مختلفة مؤكدا أن هذه المحاولات لن تثنيه عن مواقفه ضد غياب العدالة وضد إجراء الاستفتاء في إقليم كردستان.
ومع تواصل التظاهرات المطالبة بالإصلاحات في العراق، وزيادة المشاركين فيها، يتبين ان كل وسائل الترهيب والترغيب لم تفلح في وقف التظاهرات التي ما زالت متواصلة في كل جمعة، والتي يصر منظموها على الاستمرار في تنظيمها حتى تحقيق أهدافها في إصلاح العملية السياسية والقضاء على الفساد والفاسدين. كما أجبرت هذه التظاهرات، الحكومة والأحزاب السياسية المهيمنة على السلطة، على مراجعة سياساتها والاعتراف بوجود الأخطاء والحاجة إلى الإصلاحات.
مصطفى العبيدي
شكراً للأستاذ العبيدي على المقال المهم…
بعد 15 عام من ما تسمى ” بالديمقراطية العراقية ” والبلد ما يزال بدوّامة البعد – كل البعد – عن ” الدستور و القانون و العدل و حقوق الأنسان عن طريق أستحكام أحزاب السلطة في الحكومة ومجلس النواب….البلاد تحتاج – بتقديري – الى جيل (33 عام) من الزمن في الأقل لحصول الشعب العراقي على “حرياته الحقيقية و الكاملة “….لربما كما هو حال الدول الأوروبية أو حتى الأسكندنافية !!!!