«العنكبوت الحكيم»

هذه الكتب اللعينة تدفعني إلى الجنون. لا أخفي أني في جاهليتي الأولى كان لدي انبهار بالحضارة الغربية وأعاني حالة استلاب مقيتة بسبب المسلسلات المصرية والخواء المزخرف ونمط الحياة الغربي حتى انكشف أن الحضارة الغربية مجرد عملاق له أرجل من طين.
أنا الآن في تلك القرية النائية وغرفتي في المدرسة الممتدة في سهول تهامة الخضراء، أجتر تلك الذكريات بمرارة، أبحث عن صديق جديد، كما يفعل الفرنجة في خوائهم الروحي وزهدهم في البشر. منهم من عاش مع قطة وأورثها المال الوفير، والبعض مع ثعبان (أنا كوندا) اشتراه من البرازيل عبر سوق غوغل وجلبوه له بـ»دي اتش إل».
في مسيري المضني من أجل الحقيقة، قررت أن أقيم صداقة مع العنكبوت العتيد «جمال» الذى ينصب شبكته على نافذتي التي أرقب منها كل يوم فجرا جديدا لا يأتي بالخيبات. ظللت أقوم بحملات إبادة للذباب المنتشر في غرفتي، ثم أجمعه وألقيه في شبكته، فتهتز الشبكة بشدة ويخرج صديقي من مكمنه سعيدا، كما كنت اتصور.
اليوم بعد أن طورت نظام تواصل جديد بيني وبين جمال اللئيم ــ طريقة تشبه طريقة ستيفن هوكن ــ للتواصل مع العالم. العبقري الذى يجسد المعجزة الإلهية التي تكمن في جسد محطم وعقل جبار، لو حضر أيام النازية في زمن التنزيل الاستثنائي للشياطين والأوجينية الهتلرية، لكان مصيره المحرقة. تقنية جديدة تحول اهتزازات خيوط العنكبوت إلى ذبذبات صوتية إلى هاتفي الذكي سامسونج، ثم الى حروف عربية وصوت بشري كصوت المطرب الرائع أبوبكر سالم، حتى يسعنا الحوار. منذ رحلت أمي منذ أمد بعيد، فقدتُ أهم محاور ذكي عرفته في حياتي بعد أبي، الذي رحل منذ أبد أبعد.***
– لماذا تلقي لي الذباب الميت في شبكتي أيها الغبي؟ هل أنت موظف في الأمم المتحدة أو أوكسفام؟
– أريد أن أوفر لك الطعام حتى تحبني
– وماذا بعد.. هل تريد أن تفقدني متعة الصيد والترقب والتوحيد وشكر الخالق الرزاق أيضا؟ ليتك تعرف المتعة التي أحس بها عندما تسقط فريسة وتهتز الشبكة ويرتفع نداء الطبيعة وغريزة الافتراس في جسدي، وأزحف الزحف المقدس نحوها وهي تلتف في خيوطي السحرية.
– بعض البشر يعجبهم ذلك، العيش الطفيلي والرضا بالمعونات وترهات البنك الدولي، والعيش في ذل النظم الفاسدة.
– وماذا بعد أن ترحل وأفقد كل قدرتي الطبيعية على الصيد والبقاء بفضل طعامك الجاهز، من المجازر المشينة التي ترتكبها في حق الذباب بالمبيد الحشري الذى يلوث البيئة.
– الذباب كائن ضار
– نحن العناكب لا يعجبنا ذلك، دعني أعيش حياتي وعش حياتك ودع الذباب يعيش حياته أيضا، ليتك فقط اكتفيت بالغناء الليلي بصوتك الأجش القبيح تلك الأغنية.
– بوب مارلي.. أغنية الحرب
– هل هي عن الحرب بين بني البشر الأغبياء؟
– نعم يا صديقي.. هذه الأغنية تذكرني بصديق مسيحي أيام دراستي في الجامعة، كتبها لي وقال لي إنها خطاب (هيلاسلاسي) إمبراطور إثيوبيا العظيم في الأمم المتحدة في حقبة الستينيات عن العدالة الاجتماعية.
– بخ .. بخ، هل تذكر معركتي الكبرى بين ذلك الزنبور المتهور الطائش المغرور، الذى جاء ليدمر بيتي ووقفت أنت على الحياد تستمتع بالمعركة يا مدعي الإنسانية.
– كنت لا أعرفك
– الحمد الله كنت لا تعرفني، وإلا كنت أفسدت كل شيء، استدرجته إلى حقل الألغام والخيوط المسمومة وفقد وعيه، والتفت الخيوط وعطلت أجنحته المدمرة، وفقد عنصر التفوق الجوي أيضا، وسقط مدحورا وأضحى طعاما لحلفائي النمل. هذه هي «الدارونية» الحقيقية.. البقاء لصاحب الحق وليس الأقوى.
– نعم أنت تقاتل من أجل الوطن، وهو يقاتل من أجل غريزة الدمار الشريرة
– أول مرّة تقول كلاما يدل على الذكاء البشري يا صديقي
تملكني غضب شديد منه واختطفت علبة المبيد من المنضدة أمامي المندسة بين الكتب
– ماذا هل أغضبتك وتريد قتلي؟ هيا إفعل.. إني أفضل الموت على إعانات الذباب الميت التي تقدمها لي كما يفعل البنك الدولي بدولكم التعيسة.
– لن أقتلك أيها الساقط، سأترك الأمر لزوجة المستقبل التي ستلبي نداء الطبيعة معها، ليتها تكون أرملة سوداء من بلاد العم سام.
– لقد هربت من ثلاث زيجات مهلكة من هذا النوع حتى الآن
– لماذا؟
قهقه العنكبوت ضاحكاً
– مازلت في عنفوان الشباب والحياة مبهجة من نافذتك أرقب معك شروق الشمس وشدو العصافير وتسبيح الكائنات، ثم أردف تبا لك أنت تعرف عن حياتي الخاصة الكثير.
– وكل الحشرات أيضا، ألم أخبرك مرارا نحن ندرس علم الحشرات في كلية العلوم في السودان
– عندما يتقدم بي العمر سأستسلم لأول عاهرة أتزوجها لتفتك بي وتطعم جسدي المنهك صغارها الملاعين.
– هكذا إذن!
– دع غرورك البشري وتعلم من الجميع الحق أولى أن يتبع*****
فصلت السماعات عن أذني، وحملت علبة المبيد الحشري ذا القوة الثلاثية للإبادة، الذي يشبه أحزاب اللقاء المشترك في اليمن، وقوى الإجماع الوطني عندنا في السودان، وخرجت إلى الفناء حيث كان القمر يجلو الأحياء والأشياء بأشعته الفضية وفحيح الأفاعي ونعيب البوم ونباح الكلاب ورفيف الأجنحة وصفير الخفافيش، تعزف سيمفونية الطبيعة المدهشة، وقذفت بالعلبة بعيدا وعدت إلى غرفتي استمتع بطنين البعوض، وأغني بصوتي الأجش لصديقي اللدود «جمال» أغنية بوب مارلي التي يحبها.

٭ كاتب سوداني

«العنكبوت الحكيم»

عادل الامين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية