الفاعلُ الأوليغارشي والمثقف الراوية

ربما كان التلاعب بالنصوص، أي بما تمثله من بعد تاريخي بوصفها روايات تحمل بصمة مرحلتها وموقف أصحابها الحقيقيين، مجرد لعبة مسلية كررها حماد الراوية وخلف الأحمر كثيرا إلى درجة تأثيرها في الإحداثيات، التي شكلت مسار جزء مهم من التراث العربي، غير أن ما يمكن أن تحيل إليه هذه اللعبة المسلية قد يتجاوزها إلى دور فاعل ينطلي على المفهوم المعاصر للمثقف، وهو يربط مصيره الفكري والثقافي بمصير النخب الفاعلة في المجتمعات العربية المعاصرة. وكأن الدعم الكبير الذي يقدمه هؤلاء المثقفون لهذه النخب التي صارت تسمى «الأوليغارشيا» إنما هو مجهود عربي لهاتين الشخصيتين دور فاعل في اكتشافه.
وإذا كانت الأوليغارشيات قد ولدت بعد تكون عسير في خضم الأزمنة المتعاقبة التي شهدتها المجتمعات الغربية، وخاصة المجتمع الأمريكي، لضرورة أملتها الحتمية التاريخية من أجل الدفع بليبرالية هذه المجتمعات التي لا تتحمل الانغلاق على الرواية الأحادية للتاريخ إلى الأمام أي دفعها إلى تجاوز مناطق الحرن والخروج بآفاق جديدة تتجاوز الطرح الفردي المغلف بأطروحة التخوين والتبجيل، فإن صورة الأوليغارشية كما يقدمها بعض ذوي الجاه من الساسة وأصحاب المال في العالم العربي، وهم يبنون علاقتهم بالمثقفين المتعطشين لإيجاد مكانة في الدوائر المغلقة للنفوذ السياسي، لا تعدو أن تكون جدارا يعوق رؤية الرواية الحقيقية للحداثة التاريخية، ويمنع حركة التاريخ من التقدم في راهن الممارسة السياسية، نظرا لدورها النافذ في كتابةِ تاريخٍ على المقاس بنسخة أحادية وروايات متعددة تترك للمثقف تبرير إفرازاتها المتناقضة بالنظر إلى ما تُبديه النخب النافذة من تناقض ظاهر مدفوع بحماية المصلحة الذاتية والترتيب للخروج من الحياة بوجه مشرف. ولكن هذا المنطق الأوليغارشي يعكس في جوهره الوحدة العضوية القوية المدعومة بالإسمنت الأيديولوجي الذي يسوق به رؤيته المتشظية ظاهريا في روايتها للحادثة التاريخية، وفي تصورها للتاريخ بوصفه نسخة وحيدة لمخطوط نادر يصعب تحقيقه نظرا لصعوبة الربط بين وحداته المتشظية، لصعوبة ما اعتراه من تغيير في الإحداثيات التي طبعت مساره التاريخي، نظرا لكثرة تدخل أمثال حماد الراوية وخلف الأحمر في إضفاء صدقية ما عليه عبر الأزمنة المختلفة.
ولعل هذا ما يُحول مسار المثقف الراوية، بعد عمر طويل من المكابدات في اكتساب صفة المثقف النقدي، إلى مجرد مُحاورٍ أو مترجمٍ أو حارس سيرة، أو كاتبِ مذكرات يخضع بصورة أو بأخرى للسلطة الرمزية المهيمنة التي يمثلها الفاعل الأوليغارشي، بوصفه مصدرا موثوقا به يحوز الرواية الذاتية للحادثة التاريخية في مرجعيتها الثورية، أو في راهنيتها السياسية، أو في سطوتها المالية، ويُستعمَل فيها المثقف للحفاظ على مسافة الغموض الواجبة التي تضفي على الرواية الذاتية هالة الأسطورة وتفصل بينها وبين التصور الجمعي الذي بإمكانه أن يشكل طموحا تطلعيا قادرا على الثأر للحقيقة التاريخية المغيبة في أي لحظة.
ولعله لذلك، لم تعد ثمة من محاولة يحقق بها المثقف النقدي وجوده الكاريزمي غير الانضمام إلى نخبة المثقفين المنضوين تحت مظلة النظرة الأبوية العطوفة، التي يحملها الفاعل الأوليغارشي عن الذات وعن العالم، والتي تعكس مدى الامتنان الكبير الذي يكنه هذا الأخير للمثقفين وهم يشتغلون داخل النسق الأوليغارشي، مُثمنا دورهم الناقد الذي طالما ادعوا ممارسته بوعي كبير، أثناء إخضاعهم للتاريخ القديم إلى التفكيك المنهجي، مُشككين في صِدقية الاعتماد على مروياته الأيديولوجية القديمة، محملين إياها كل الأوزار التي اعترضت، أو التي لا تزال تعترض، مسارات الدولة الوطنية الخارجة من أسر الكولونيالية، والباحثة عن كوة تنويرية تهتدي بها وتهدي بها الجموع المزدحمة عند أبواب العصر الموصدة.
وسيصبح المثقف الراوية، في هذه الحالة، تقيةً يستعملها الفاعل التاريخي من أجل تبرير البث الأرضي المتعدد للحادثة التاريخية برواياتها المختلفة والمتناقضة، التي يخون فيها المعارضُ الجديدُ الرفيقَ القديمَ ويبجل فيها الصديق القديم العدوَ الجديد في شكل مسلسل طويل غير منتهي الحلقات، يشفعُ لرتابة أحداثه وتكرارها من زوايا كثيرةٍ ما يقومُ به المثقف من تدبيجٍ لأحداثه المملة، ومن تزيينٍ لعُقَدِه المستعصية على الحل.
لا يستطيع المثقف النقدي ـ الذي فضل التحول إلى (راوية) تماما كما (حماد الراوية) الذي طالما اتهمه بتزييف التاريخ من خلال الإضافة له أو الإنقاص منه ـ أن يقرأ التاريخ بوصفه وحدةً عضوية مرتبطة بالزمان وبالمكان وبالأحداث التي تشع بالحقيقة التي تكاد تطل من بين الروايات المتعددة المكدسة أمام عينيه، كما لا يستطيع أن ينظر إلى الفاعل الأوليغارشي بعين الموضوعية التي يتطلبها الدرس العلمي، ولا بالمسافة الفاصلة التي تمكنه من رؤية التاريخ في صورته الكاملة، بأحداثه وبجزئياته، لا الاستماع إليه وتدوينه من فم الفاعل الأوليغارشي، كأحداث منفصلة ومتعددة التي بإمكانها أن تشكل التاريخ في صورته الكاملة.
وسيقف المثقف الراوية لا محالة في هذه المرة موقف المتموقع مع الفاعل الأوليغارشي، الذي يروي له أو يترجم له أو يحرر له مذكراته، من خلال إضفاء المصداقية على هذه الرواية التي سيقف ضدها مثقفٌ راويةٌ آخر تكفل هو الآخر بالوقوف مع فاعل أوليغارشي آخر، سمع رواية أخرى مناقضة أو مختلفة عن الرواية الأولى. ويتم ترسيخ الرواية الأحادية في أوجهها المتعددة وفي نظرتها المناقضة لما تعكسه مرآتها من خلال ما تحاول أن تفرضه من عنعنة وحيدة موثوقة وقادرة، في نظرها، على إنقاذ التاريخ الجمعي من المأزق الأصولي للرواية الأوليغارشية، ومن ثمة إنقاذ الجموع من صعوبة إيجاد الحلول الموضوعية للمشاكل التي يطرحها توعك الراهن المأزوم بتورمات التي تعاني منها الحادثة التاريخية، في حين أن الواقع ينذر، في صورته اليومية، بهشاشة ما تحمله هذه النسخة من حرَن سياسي وفكري يميز هذه الطبقة ومن والاها من المثقفين، والذي بإمكانه أن يشكل خطرا مستقبليا على المنطلق الوطني الذي بنت عليه الثورات التحررية جميع مواثيقها النظرية، وبلورت من خلاله فكرة الدولة الوطنية التائقة إلى الحرية والتحديث والعصرنة.
ولعلها الصورة المهيمنة على السلوك الأوليغارشي وهو يفتح الباب لمن يريد أن يتعاون معه من المثقفين، من أجل ترسيخ الرواية الأحادية لتاريخ الدويلات الوطنية في صورته الأكثر إقصاء لطموحات الذات الجمعية، وهي تنشد الوصول إلى صورة مكتملة للرواية الأصلية للحادثة التاريخية، التي من المفترض أن تشكل عاملا أساسيا في تمتين إسمنت الوحدة الوطنية كما نصت عليها هذه المواثيق، وكما حملها هذا المشروع المشروع.
كيف يتحول المثقف النقدي، أو المثقف الذي يدعي أنه مثقف نقدي، إلى مجرد مُحاوِرٍ مهذب منبهر أمام الكاريزما الأوليغارشية، ينصتُ إلى الحادثة التاريخية وهي تتماهى مع طموحات الفاعل التاريخي، كما لو أنهما قد توافقا على تحطيم كل الجدران الحقيقية التي وضعها التاريخ بينهما، وكأنهما قد اكتشفا أهمية العمل على تفكيك الحادثة التاريخية وإعادة تركيبها وفق متطلبات الراهن. وكأنهما قد خُلقا ليعيشا في بركة واحدة يلعب فيها كل منهما دوره المنوط به بامتياز. وهو الدور الذي يحققه الفاعل التاريخي مستندا إلى شرعيته الثورية أو السياسية أو المالية، في حين يحققه المثقف مستندا إلى شغفه اللامتناهي بما يحيط بالفاعل التاريخي من هالة أسطورية يتمنى في قرارة نفسه لو أنه فاز بواحدة منها ليلتحق بالسرب الأوليغارشي بصورة رسمية ودائمة. ولعل هذا ما يشكل العقدة الأساسية في مسار المثقف النقدي الطموح إلى الفوز بمقعد دائم في المنظومة الأوليغارشية، التي تمكنه من التحول إلى مثقف نخبوي متسيس قابل للاستوزار والظفر بالمناصب التقنية الكبرى، التي تُعرض عليه في لحظات الاحتقان السياسي، كتعبير من الطبقة الأوليغارشية عن الوفاء الذي تكنه للمثقف النقدي الوفي، في إدراكه لخطورة دورها التاريخي في تحقيق مشروعها التحديثي، وكرد لجميل (الخيانة) التي حققها هذا المثقف لهذه الطبقة، من خلال دعمه لها في اللحظات الحرجة التي يتحرك فيها بركان التاريخ ويتأتئ بصوت مرتفع أمام أبواب من كتموا روايته الوطنية الكبرى.

٭ شاعر وكاتب جزائري

الفاعلُ الأوليغارشي والمثقف الراوية

عبد القادر رابحي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية