الفيلم الوثائقي: اشكالات التعريف وأزمة النوع الفيلمي

القاهرة ـ «القدس العربي»: التجربة الفنية دوماً ستظل أسبق من التنظير أو النقد، حتى وإن كان البعض منها يسترشد ويتوسل ببيان تنظيري يحمل فكراً معيناً. إلا أن هذه التجارب سرعان ما تثور على القالب الفكري/النظري، الذي دارت في فلكه بعض الوقت. فالعمل الفني والسينمائي ــ على الأخص ــ أولاً وأخيراً، يحاول إعادة إنتاج الواقع، بإضفاء معنى جمالي، يخضع لقدرة صانع الفيلم على الخيال، أي أن الهدف النهائي هو أن يخلق من هذا الواقع فناً. وفي ما يخص «الفيلم الوثائقي» كما تم الاصطلاح على تسميته، نجد أن المسارات النقدية السينمائية انهمكت في تشعبات مُربكة، كانت انعكاسا لظروف سياسية واجتماعية، وإيديولوجية في المقام الأول، حتى أن الفنانين الذين ساروا في دروبهم، قد ساعدوا بشكل أو بآخر على تفاقم المشكلة ــ بداية من التعريف، ووصولاً للتصنيفات ــ وزادوا الأمر تعقيداً.

وثائقي أم تسجيلي؟

بغض النظر عن معضلات تعريف الفيلم الوثائقي، نتطرّق سريعاً إلى مدى جديّة التفرقة بين لفظة «الوثائقي» و«التسجيلي». فالكلمة اللاتينية لكل من وثائقي أو تسجيلي واحدة Documentary ومصدرها كلمة Document أي «الوثيقة». فلم تثر الكلمة أي لَبس أو تشوّش في مدلولها في اللغة الإنكليزية أو الفرنسية، إلا أن هذا التمايُز جاء عند ترجمة المُصطلح إلى اللغة العربية، نظراً لاختلاف مفهوم المترجمين عن اللغة الأصلية، سواء الإنكليزية أو الفرنسية، كذلك كترجمة حَرفيّة، أو مُستخلصَة من سياق عام لمفهوم هذا الشكل الفيلمي. فالتفرقة جاءت نتيجة ترجمة المصطلح إلى العربية، والجهة التي اعتمدته، والمدرسة التي نقلت عنها. ففي مصر كانت كلمة «التسجيلي» هي التي استقرت، لأن أغلب الترجمات الأولى كانت عن الإنكليزية، بينما نجد الترجمات السورية واللبنانية قد استندت أكثر إلى الترجمة عن الفرنسية، فجاءت كلمة «الوثائقي». فلا يعدو الأمر سوى اختلاف في صياغة المفردة المُترجَمة ليس أكثر.

التعريف وإشكالاته

لم يستقر تعريف الفيلم الوثائقي منذ بداية إطلاق المصطلح من قِبل جون غريرسون (1898 ـ 1972) عام 1926، وحتى الآن. وإن اختلفت وجهة نظر كل تعريف تالٍ، سواء من حيث الموضوع، عناصر الفيلم الأساسية، السمات الشكلية، وحتى من قبيل كونه مُنتَجا لا يسعى إلى الربح مقابل السينما التجارية. وكلها تعريفات تطورت في سياق اجتماعي واقتصادي، وتقني. إلا أنه وقبل ظهور مصطلح (Documentary Film) نجد أن جذور السينما الوثائقية «تمتد إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك في شكل كان يُطلق عليه (المحاضرة المصوّرة) والتي كانت عبارة عن عرض لسلسلة من الصور الفوتوغرافية، المصحوبة بتعليق حي، أو موسيقى». (تشارلز موسر، الفيلم التسجيلي في عصر السينما الصامتة، ترجمة: هاشم النحاس، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، 2010، ص 605) مع ملاحظة أن هذه العروض اعتمدت على أسلوبها، من حيث التصوير وطريقة العرض، والذي جعلها كشكل أولي للفيلم الوثائقي.

معالجة ما يُسمى الواقع

بداية عرّف غريرسون الفيلم الوثائقي بأنه: «المعالجة الخلاقة للواقع». ووفق هذا التعريف اقتصر الفيلم الوثائقي على الأفلام التي لا تكتفي بمجرد الوصف الدقيق للواقع والطبيعة، بل تسعى لإعادة التنظيم والترتيب، ثم التكوين الفني لهذه المادة الواقعية، أما الجرائد والمجلات السينمائية، والأفلام التعليمية والعلمية فأطلق عليها الأشكال التسجيلية. فالأمر إذن لا يتوقف على المادة الواقعية، بل على الأسلوب أو الطريقة الفنية في توظيفها. إضافة إلى أنه تعريف «بالغ العمومية، ويكمن إطلاقه على الأفلام الروائية، بل وعلى أي عمل فني أو أدبي». (د. محمد كامل القليوبي. التسجيلي وغير الروائي. دراسة منشورة بمجلة أبيض وأسود. القاهرة. الهيئة العامة لقصور الثقافة، العدد 25، يناير 2014. ص 16). بينما يُعرّفه المعجم السينمائي بأنه «نوع من الأفلام غير الروائية، لا يعتمد على القصة والخيال، بل يتخذ مادته من واقع الحياة، سواء أكان ذلك بنقل الأحداث مباشرة كما جرت في الواقع، أم عن طريق إعادة تكوين وتعديل هذا الواقع بشكل قريب من الحقيقة الواقعية». (أحمد كامل مرسي، مجدي وهبة، معجم الفن السينمائي، القاهرة 1973، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 107). وهذا التعريف ينفي عن الفيلم الوثائقي القصة والخيال، وإن تغاضينا عن القصة بمفهومها الكلاسيكي، كحكي على أساس عِلّية الأحداث، فلا يمكن التغاضي عن الخيال الفني، وإلا كيف سيتم إعادة تكوين وتعديل هذا الواقع؟!

خيالي وغير روائي

وهو ما جعل الناقد والمترجم هاشم النحاس عند ترجمته لـ non – fiction ان يطلق عليه (الفيلم غير الروائي) بديلاً عن الترجمة انه (غير خيالي) بما أن العمل الفني لا يخلو من خيال، وهو محق في ذلك. أما استبدال غير القصصي بغير الخيالي، فهو لم يحل المشكلة بالكامل، خاصة وأن الحكي الآن اتخذ عدة طرق تختلف تماماً عن الحكي التقليدي من بداية ووسط ونهاية، فالفيلم أياً كان شكله لديه حكاية يريد روايتها، لديه صراع ما يتولد حتى في أبسط أشكاله، ولو عن طريق التناقض/المُفارقة بين الصورة المعروضة والتعليق الصوتي. أي خلق حالة درامية وفق الأسلوب الذي انتهجه صانع الفيلم. (راجع على سبيل المثال فيلم «وصايا رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم» لداوود عبد السيد، وقبله فيلم «أرض بلا خبز» للوي بونويل، وقد انتهج عبد السيد النهج نفسه).

محاولة عقلنة الواقع

وهناك مَن يعتمد تعريف «الوثائقي» انطلاقاً من طبيعة بناء الموضوع، حيث تتقلص أهمية الأسلوب لصالح قيمة المضمون، أو ما يسمى (عفوية التوثيق) مما يحد من تدخل صانع الفيلم، والمتمثل في الإعداد للتصوير واختيار الزوايا والتكوينات البصرية. فالواقعية أسبق وأهم من الجماليات، أو ما يكمن في الخشونة، والتي تعد أسلوباً جمالياً في ذاته، وهي نفسها فكرة (دزيغا فيرتوف Dziga Vertov) (1896 ـــ 1954) عن السينما الوثائقية، والتي لم يستطع تحقيقها عملياً بالكامل من خلال فيله «الرجل والكاميرا 1929». الذي يُعد تطبيقاً مباشراً لها. إلا أن الأكثر صراحة يكمن في تدخل صانع الفيلم وإظهار أسلوبه الجمالي، حتى يستطيع أن ينقل صور صمّاء للواقع من خلال عقلنة الواقع نفسه.

المحتوى والمضمون

وهناك تعريف حديث نسبياً، جاء في كتاب «فهم الفيلم» لرون جونسون وجان بون حاول الإحاطة قدر الإمكان بالتطورات التي طرأت على الشكل الوثائقي، وهو التعريف الذي اعتمدته الأكاديمية الأمريكية لعلوم وفنون السينما، التي ذكرت أن الوثائقي هو «الفيلم الذي يتعامل مع مواضيع تاريخية أو اجتماعية أو علمية أو اقتصادية، سواء صوّر وقت وقوع الأحداث الحقيقية، أو أُعيد بناء وتجسيد أحداثه الحقيقية (أُعيد تمثيلها) وحيث يكون تركيز الفيلم الأساسي على المحتوى الحقيقي، أكثر من اهتمامه بالجوانب المتعلقة بالتسلية». (أمير العمري. وقائع الزمن الضائع، البحث عن محمد بيومي/مقال. مجلة الجزيرة الوثائقية، عدد4، أكتوبر ــ ديسمبر 2009).

الأسلوب الفني

ويتعرّض بول روثا (1907 ــ 1984) لتعريف «الوثائقي» من خلال عناصره الأساسية، التي إن لم تتوافر، لخرج عن كونه وثائقياً. وتتلخص هذه العناصر في الفكرة بدلاً من الحبكة، الأحداث الواقعية والشخصيات الحقيقية بدلاً من المُتخيّلة، التركيز على العالم من حولنا. ونلاحظ أن مسألة الحبكة لم يعد يختص بها الفيلم الروائي فقط، فقد تطورت أساليب السرد، بحيث أصبحت الحبكة في الكثير من الأعمال لا أثر لها. وتقوم هذه الأعمال على الفكرة أو الحالة. أما الأحداث والشخصيات الواقعية، فلم تعد قاصرة على الفيلم الوثائقي، أما عبارة التركيز على العالم من حولنا، فهي لا معنى لها، تتفوق على جُملة غريرسون عند حديثه عن معالجة الواقع الخلاقة. وإن كان روثا قد طوّر من مفهومه للفيلم الوثائقي، في أحد حواراته بقوله: «من الصعب علي أن أضع فارقاً بين ما يُسمى (فيلم وثائقي) وآخر (روائي)، أي فيلم/قصة. في رأيي أن الفرق يوجد في منهج الملاحظة التي نقترب فيها من الموضوع، وطريقة تصويره وأسلوب إخراجه». ثم يستشهد بعد ذلك بفيلمي «قصة لويزيانا 1948» لروبرت فلاهيرتي و« أمبرتو دي 1952» لفيتور دي سيكا. ويتساءل: أيهما وثائقي وأيهما روائي؟ ومَن يُقرر ذلك؟

المعنى الجمالي/الخَلق الفني

من التعريفات السابقة ــ رغم تباينها ــ نجد أن الاتفاق دار حول مظهر حقيقي حدث في الواقع. أما كيفية نقل هذا المظهر في عمل فني، فهو محل خلاف. فأعمال فلاهيرتي تم صنعها وإعادة تمثيلها بالكامل، سواء في «نانوك الشمال، أو «موانا». فقد قام بتحريك الشخصيات الرئيسية وفق خطة مُحكمة، أي أنها قامت بدور المُمثل، كما جعل الشخصيات تقوم بأفعال أمام الكاميرا لم تكن تقوم بها في الواقع. من ناحية أخرى نجد أعمالاً يعدها البعض في الكثير من الأحيان وثائقية، رغم أنها بالكامل مصنوعة ومُمَثلة، إلا أن ما يوحي بذلك هو استنادها إلى أحداث واقعية حدثت بالفعل. والمثال الأكبر لذلك فيلمي سيرجي أيزنشتين (1898 ــ 1948). «المدرعة بوتمكن 1925» و«أكتوبر 1928». فالأمر في الأخير يتوقف إذاً على «إضفاء المعنى الجمالي» على ما يُسمى بالواقع. أي تحويله إلى فن.

الفيلم الوثائقي: اشكالات التعريف وأزمة النوع الفيلمي

محمد عبد الرحيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية