المثقف في بلاد العرب بين الالتحاق بالسلطة ومعارضتها ـ تشريح بعض الإشكاليات

1) ولأن بلادنا يسطو على مواطنيها ومجتمعاتها ودولها طوائف من المستبدين مطلقي الصلاحيات ومحتكري الثروة ومن السلطويين الباحثين عن البقاء الأبدي في الحكم وعن تمكين مجموعات المصالح المؤسسية والاقتصادية والمالية المتحالفة معهم من الثروة والنفوذ والمكانة، 2) ولأن المستبدين والسلطويين العرب لا يتورعون عن إنزال القمع والظلم وانتهاكات الحقوق والحريات بالناس ومنعهم من الحصول على أنصبة عادلة من الثروة والنفوذ ويفرضون من ثم إما تهميش الأغلبيات أو إفقارها.
3) ولأن عنف المستبدين والسلطويين قد يصل إلى القتل والتورط في جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة واسعة النطاق حين تنتفض الشعوب ضدهم كما أنهم يوظفون مؤسساتهم الأمنية النظامية وشبكاتهم غير النظامية (شبكات الشبيحة في سوريا وجماعات العنف الطائفي في العراق ومجموعات البلطجية في مصر) لتوجيه العنف أو التهديد الدائم باستخدامه إلى معارضي الحكم وإلى المواطنات والمواطنين من رافضي الخضوع لهيستيريا «الزعيم الخالد» و«البطل المنقذ» ولمكارثية الرأي الواحد ولنزع الإنسانية المرتبط بنفي المظالم والانتهاكات وتعطيل الضمير والعقل في سبيل تأييد الطغاة، 4) ولأن المستبدين والسلطويين العرب عادة ما يضمنون لخدمتهم وصانعي هالات بطولاتهم الزائفة وأوهام حكمتهم إما الحماية من القمع والعنف الرسميين أو يلحقون بالحماية شيئا من الثروة والنفوذ أو يعهدون بمهمة «المنح المالي» للمصالح المتحالفة معها (فتأتي العوائد ـ أي ريع خدمة السلطان ـ إما من المؤسسات الرسمية أو من نخب الثروة والمال المؤيدة للحكم)؛ لكل ذلك يسيطر على عموم مشهد المثقفين في بلادنا ثلاثة حقائق رئيسية: استتباع البعض من قبل المستبدين والسلطويين وانخراطهم في خدمتهم نظير الحماية والعوائد، ابتعاد شرائح أكبر عن قضايا الحكم والسلطة وانصرافها أيضا عن الانخراط في الشأن العام واكتفائها بالصمت على المظالم والانتهاكات، انضمام نفر قليل من المثقفين العرب إلى دوائر معارضة الحكم ومطلبية التغيير المستندة إلى إيقاف جرائم المستبدين والسلطويين وحتمية محاسبتهم عليها واستعادة العدل للمواطن والمجتمع والدولة.
وقد أتت العقول والأقلام والحناجر على تناول ظاهرة المثقف الملتحق بالحكم في بلاد العرب، ومازالت تقاربها إما 1) كمرادف «لخيانة صاخبة» للمثقف لمسؤوليته الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية التي تلزم بمواجهة الاستبداد والسلطوية والدفاع عن العدل والحقوق والحريات وينبغي أن تحول دون الانخراط في خدمة السلطان وقبول ريعه كما تحول دون الخوف من القمع والعنف والاستسلام لحساباتهما الزائفة، أو تقاربها بطريقتين مناقضتين تماما إن 2) كصنو «فعل وطني» من قبل المثقف الصارخ يوميا بالطبيعة الاستثنائية «للزعيم الخالد» وبكون وجوده ضرورة لإنقاذ الوطن وبقاءه شرط لإنقاذ الأمة وحكمته لا بديل لها إقليميا وعالميا أو 3) كدليل «رغبة صادقة» من قبل المثقف للاضطلاع بدور جاد يستهدف «الإصلاح من الداخل» والعمل على الانتصار لحد أدنى من العدل والحق والحرية داخل سياقات حكم يستحيل إنكار طابعه الاستبدادي أو السلطوي كما يتعذر مقارعة سيطرته على المواطن والمجتمع والدولة.
لم تصمت أيضا العقول والأقلام والحناجر على ظاهرة المثقف المنصرف عن الحكم والشأن العام في بلاد العرب، وما لبثت تراوح في تفسير الانصراف بين اعتباره 1) حقيقة مدفوعة «بتمكن الخوف» من المثقف بفعل قمع وعنف المستبدين والسلطويين وطاقات خدامهم والمصالح المتحالفة معهم على العبث بحياة الناس والإخلال بمرتكزاتها في المجالين الخاص والعام ـ وأحيانا ما يحمل حديث الخوف هنا أيضا بمضامين تقرير «الخيانة الصامتة» للمثقف المنصرف لمسؤوليته الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية، أو النظر إليه 2) كترجمة مؤلمة «ليأس المثقف» والمظالم والانتهاكات تحيط به من كل جانب وافتقاده للأمل في إحداث التغيير باتجاه العدل والحق والحرية وهيستيريا تأييد «الزعيم الخالد» تختزل المواطنات والمواطنين إلى جموع صماء يزج بها جهلا وتطرفا ونزعا للإنسانية إلى خانات الفناء ومواقع انهيار المجتمع والدولة ـ ينصرف المثقف يأسا وإحباطا وقبل الشعورين اغترابا عن معاصريه الذين يرضون الضيم وتعطيل الضمير والعقل، أو تدرج انصراف المثقف 3) كفعل طبيعي لا علامات خوف به ولا يأس جوهره «الاقتصار على الدور المهني» إن في الحياة الفكرية والأدبية أو في أروقة الجامعات والبحث العلمي أو في وسائل الإعلام وتكثيف المثقف المنصرف لعمله التوعوي في حقل تخصصه.
أما في ما خص المثقف المعارض للاستبداد وللسلطوية فيندر في بلادنا التعاطي مع مضامين وحدود وتحديات دوره على نحو به من الموضوعية ولو الشيء اليسير، فالمثقف المعارض إما يصنف من قبل الحكم والمصالح المتحالفة معه وخدمة السلطان.
1) كمرتكب «لجرم الخيانة الوطنية» لكونه يرفض الالتحاق بركب «الزعيم الخالد» ويماري في «الضرورة الوطنية والقومية والعالمية» التي تلزم بتأييده وإعانته على إنقاذ الوطن والأمة والبشرية جمعاء ويشكك في «اللحظة الاستثنائية» التي تمر بها البلاد (والمعنونة تارة تحرير فلسطين وثانية طرد العدو الغاصب وثالثة دحر مؤامرات أعداء الداخل والخارج ورابعة صون الخصوصية العربية ـ الإسلامية وخامسة حماية الأمن والاستقرار في أجواء إقليمية ودولية عاصفة)، أو ينظر إليه نفر الواقفين في ذات خانات معارضة الاستبداد والسلطوية والمقتنعين أيضا بأفكاره ومبادئه والمطالب التي يطرحها أملا في إيقاف المظالم والانتهاكات والتغيير باتجاه العدل والحق والحرية، 2) «كبطل من نوع آخر» تتشابه عند عتباته عناصر الإقدام والجلد والطاقة على مقاومة المستبدين والسلطويين والاستعداد للتضحية الشخصية مع الكثير من عناصر الموروث المحلي عن أبطال السير الشعبية (كأبي زيد الهلالي في الحالة المصرية) وشيء من الموروث الديني المرتبط ببطولات الرسل والأنبياء (قصة نبي الله يوسف الذي مكن له في الأرض بعد هوان وسجن، وهي تستدعى راهنا في بعض سياقات المعارضة المصرية) وشيء من تراث النضال العالمي من أجل العدل (الذي تزين إلى اليوم تفاصيل حياة نيلسون مانديلا فصله الختامي)، أو 3) يجرد المثقف المعارض من قبل معارضين آخرين من كل «قيمة أخلاقية وإنسانية ووطنية» ويواجه بعنف لفظي ينزع عنه ما يرونه هم «ادعاءات النضال الزائفة»، والسبب إما الاختلاف في الأفكار والمبادئ والمطالب أو الشكوك التي تراكمها في بعض الأحيان تقلبات مواقف المثقف وفي أحيان أخرى تقلبات مواقف المعارضين الآخرين وترتبها في جميع الأحيان طبائع الاستبداد والسلطوية التي تصنع من الشك حقيقة مجتمعية كبرى.
وبينما يستطيع المثقف المعارض الاعتياد على ترويج خدمة السلطان لاتهاماتهم التقليدية والزائفة (أيضا تقليديا) بتورطه في «خيانة الوطن» ويطور بعد فترة زمنية محدودة قدرة واضحة على تفنيد الاتهامات هذه وإظهار جهلها ومكارثيتها وتكريسها للاستبداد وللسلطوية ـ بالقطع، ما لم تقم المؤسسات النظامية والشبكات غير النظامية الممارسة للقمع والعنف بتصفيته ماديا أو معنويا، وبينما يملك المثقف المعارض أدوات متنوعة لمواجهة اتهامه «بالنضال الزائف» من قبل رفاق درب سابقين ولاحقين ويمكنه أن يربط بين ذلك بأمانة وبين مراجعة مواقفه وممارسة النقد الذاتي ذي الأهمية القصوى للمعارضين شأنه شأن البحث عن فرص تجديد الحوار مع الرفاق وإحياء اصطفافهم في مقاومة المستبدين والسلطويين في بلاد العرب؛ تزج هالات «بطولة» المثقف المعارض به إلى خانات يصعب عليه أخلاقيا وإنسانيا ومجتمعيا التعامل معها ومع تداعياتها. «فالبطل» لا يستطيع التعبير الطبيعي والصادق عن الخوف إزاء قمع وعنف المستبدين والسلطويين وعبثهم بمرتكزات حياته في المجالين الخاص والعام، وإن جهر بحديث عن الخوف وعن تفاصيل مقاومته اليومية له لكي لا يصمت عن المظالم والانتهاكات والصراع النفسي والعقلي بداخله بشأن التوازن بين حماية حياته وأسرته وبين الاستعداد للتضحية يتهم فورا من قبل أصحاب الصوت المرتفع والمضمون متناهي المحدودية بالخيانة ملحقا بها إما الادعاء بأن المستبدين والسلطويين نجحوا في «تدجينه بعوائدهم» أو «دجنه الخوف»، وإن اعترف بشعوره الإنساني بالهزيمة وبيأسه واغترابه خرجت عليه طوائف «الحنجوريين» الذين لا يعدمهم أبدا المجال العام في بلاد العرب على امتداد الأجيال العمرية وعلى اتساع وسائل التعبير العلني عن الرأي (إعلام تقليدي ووسائط تواصل اجتماعي) متهمة إياه بالضعف والحماقة والجهل، وإن مارس النقد الذاتي أعملوا فيه ما يظنونها سهام الإلغاء والإسكات.
وفي جميع السياقات هذه، تعمق «هالات البطولة» من مأزق المثقف المعارض وهو يقاوم استبداد يسطو على الأوطان ويحدد موقعه وسط نظرائه الملتحقين والمنصرفين، وتعرضه هو لاستبداد من نوع آخر لا تقل مقاومته صعوبة، استبداد الاغتراب.

٭ كاتب من مصر

عمرو حمزاوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ،،ابو سالمUSA:

    هذه هي مصيبة بني يعرب يا سيد حمزاوي،مثقفين السلطة،ليس عندهم اي وازع اخلاقي او ديني او سميه ما شءت ،يبيعو أنفسهم للزعيم الخالد ،مثلهم مثل بائعات الهوى،واحيي كل مثقف معارض دون تراجع ،
    كما قالها الشاعر
    فلا بد لليل ان ينجلي/. ولا بد للقيد ان ينكسر

  2. يقول خالد-اليمن:

    عمرو حمزاوي—واللة زمان يا صاحبي—كنت تنافس المذيعين بظهورك المستمر والمتواصل على الاعلام….لحد ما جاءت الثورة المضادة-30 يونيو وانقلاب 3 يوليو الأسود
    اختفيت او اخفوك او …او….اخر الليبرليين المحترمين يا د.حمزاوي

  3. يقول كريم من فرنسا:

    تشريح دقيق وواقعي لحال المثقف العربي عموما وللمثقف المصري خصوصا احسست من خلاله بصرخة مكتومة من مثقف مصري.
    نعم اوافقك الرأي في التصنيفات الثلاث واقول لك فنحن نحتقر الصنف الاول ونعتبره مثيرا للاشمئزاز ونعتب على الصنف الثاني ولكن نلتمس له العذر احيانا ونحترم ونقدر الصنف الثالث ولا نطلب منه ان يكون بطلا ويقارع طواحين الهواء فدوره هو التنوير والتوعية وقول كلمة الحق اما الثورة على الظلم واسقاط الاستبداد فهو دور الامة جمعاء.

  4. يقول م . حسن:

    المعرفة قوة . في عصر الحرية الفكرية والثقافة الإنسانية . قهر المثقف بالمغالبة السياسية تعني تغييب المنطق الإنساني السوى , ومنع إزدهار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان , مايؤدى بدورة الي الإبتعاد عن مشاعر الوفاق والتأخي الوطني وزيادة الإنقسامات , ربما لإبقاء المجتمعات في دوائر المفاهيم والمصطلحات القديمة التي أدت الي تراجعها , أوإجبارها الي العودة الي الماضي ونزاعاتة الأهلية , بدلا من إستشراف المستقبل للأجيال الجديدة والمثقفين ليصبحوا قادة وليس منقادين .

  5. يقول جاسر / الوطن العربى:

    ناسف لعدم النشر بسبب طول التعليق

  6. يقول خليل ابورزق:

    اعتقد انه يجب الاتفاق على ان دور المثقف هو دور نقدي للسلطة حتى لو كان متفقا معها عقائديا و في الخطوط الرئيسية. و ذلك لان المفكر بالطبيعة اعلى شأنا من السياسي. فما بالك لو كان السياسي عسكريا مغتصبا للسلطة.
    و عليه فان اي تبعية للسلطة تعد خروجا عن دور المثقف او تخفيضا لمكانته ونقله من اهل الفكر الى ابواق السلطة

اشترك في قائمتنا البريدية