المدينة والوظائف الحضارية للعلامات: قراءة سيميولوجية

حجم الخط
4

تشير الباحثة إيزابيلا بيزيني الأستاذة في جامعة روما إلى أن المدينة من المنظور السيميولوحي تعدّ «جمعاً من النصوص» فهي تعكس التحولات، والقيم؛ كما الاتجاهات، وبذلك فهي نموذج سردي تبعاً لقدرتها التعبيرية، وهنا نستدعي رولان بارت وقراءته السيميولوجية، ولا سيما من حيث البحث في هذا التشكيل انطلاقاً من موقف المتلقي كما يذكر في مقالة له داعياً إلى اختبار البنى السيميولوجية للمدينة من خلال فعل تصنيف الرموز والعلامات بما تنطوي عليه من أنساق، ومنها على سبيل المثال التعارض الناتج بين التاريخي ومتطلبات الحداثة، ونموذجه على سبيل المثال مدينة روما. لا شك أن القراءة السيميولوجية تتيح الوقوف على الأنماط الحضارية من خلال الإشارات، والرموز، والأيقونات، بما في ذلك التخطيط الجغرافي، أو الفضاء العام للمدينة التي تعني تمثيلاً حضارياً، وهذا يشمل علاقات القوة، والسلطة، والإقصاء، وحتى الدور والوظيفة، من مفهوم علاقة اللغة بالسلطة كما ينص بارت.
لا شك أن زيارة أية مدينة سرعان ما سوف تقودنا إلى مواجهة غابة من الإشارات والعلامات، بالتوازي مع التخطيط الهندسي، وغير ذلك من العناصر بوصفها منظومة تنتج نسقا من السلوك الحضاري العميق للثقافة التي تنتهجها أمة ما، فالعلامات تنتج علاقة بين الزائر أو المتلقي- بما في ذلك مرجعياته الحضارية والثقافية… – وبين البنية الثقافية للمدينة، فالزائر يحاول أن يفكك الإشارات الرموز، وينتهج سبيلها، أو يعيد إنتاجها كي يتمكن من الالتحاق بالنظام، وحتى لا يتسبب بخرق النظام الثقافي المديني الذي يتقاطع معه، وهذا يشمل الخشية من تجاوز النظم الأمنية، بالتوازي مع تحقيق أمنه الخاص، ومصلحته الذاتية، أضف إلى ذلك تذوق القيم الجمالية للمدينة، ومن هنا تكمن عبقرية صناعة العلامات، فهي تكفل نسقاً توافقياً ينهض على فهم متبادل لتحقيق هدف مشترك قائم على تفكيك شفرات معينة.
إن الزائر لبعض المدن الأوروبية، بالإضافة إلى بعض المدن في شرق آسيا كطوكيو وسيؤول وكوالالمبور سيلحظ أن التقدم الحضاري ينعكس بشكل طردي على المستوى الإشاراتي والعلاماتي، وهذا يعني أن ثمة علاقة بين التقدم الحضاري من جهة، وبين تطور النظام العلاماتي من جهة أخرى، فهذه المدن تتميز بنموذج متقدم من العلامات التي تطال كافة المستويات التي تتعالق مع البشر، بما فيها إشارات التحذيرات والتنبيهات التي لا يمكن أن تخطئها العين بحيث تكاد تحاصرك في كل مكان، فهي تبدأ من المطار، ولكنها لا تكاد تنتهي، حتى أنها تنتشر في أكثر المناطق فقرا، أو لنقل في مستوى طبقي متواضع.
هذه العلامات تحيل إلى نسق حضور الدولة، وسطوتها، وهي من أبرز المقاصد المضمرة التي تقوم هذه العلامات بإيصالها للإنسان سواء أكان مواطناً، أو زائرا. هذا التقدم في إنتاج العلامات والتحذيرات، وتوزيعها، يهدف إلى تكوين منهج بغية الاشتباك مع المدينة مادياً ومعنوياً، ومع ذلك فهي تنطوي على تعميق الإحساس بأنك مقدر، وأن الدول مسؤولة عن كل صغيرة وكبيرة، بما في ذلك أمنك، وحقك، ومسؤوليتك تجاه القانون، وهذا يشمل الزائر والمواطن، بل أن ثمة توضيحات تشي أنك مراقب بالصوت والصورة. ولعل الزائر إلى هذه الحواضر المدنية سيلحظ على سبيل المثال، التنبيهات التي لا يمكن أن تتناسى أبسط جزئية بما في ذلك باب منخفض يمكن أن يتسبب بإصابة، وهذا ينتشر في كل مكان كالمترو، أو قطار الأنفاق، وفي الحافلات، والدوائر الحكومية، والأسواق… فالعلامة لا يمكن أن تتجاوز في الثقافات المتقدمة كونها تنطلق من مسؤولية مشتركة يمثلها عقد اجتماعي، أو وعي تتقاسمه الدولة والمواطن، فوجود العلامة يعني أن أي خرقٍ سوف يؤدي بالضرورة إلى مسؤولية، ربما تؤدي إلى العقاب والمحاكمة، ومع أن هذه الأمور تبدو مألوفة، ولا تحتاج إلى تأويل، غير أنها تنطوي على بعد شديد الأهمية، كونها تعكس البنية الحضارية لدولة القانون، ومفهوم المساواة بين الحقوق والواجبات، والقدرة على فهم هندسة العقل الجمعي.
هذا العمق في تكوين الإشارات والعلامات والرموز: توزيعها، وتنظيمها؛ بمعنى قدرتها على أن تكون شاملة، مما يحيلنا إلى رسالة مفادها أن الإنسان بات جزءاً من النظام، وهذا ينقله إلى مستوى المواطن المنتمي. هذا النسق من الفهم العميق لمسؤولية الدولة في حفظ الإنسان، والمواطن، يعني أن ما يقوم به المواطن من دفع للضرائب هو أمر مقدر، إذ يعود عليه بالنفع والفائدة، كما أنه يعني في قراءة تأويلية رعاية الدولة، وأنها حاضرة، ولعل هذا التقدير العميق للتكوين الحضري والجغرافي يكاد يشمل على سبيل المثال التوزيع العادل للحدائق العامة في المدن المتقدمة حيث يلاحظ وجود حديقة في كل منطقة بحيث يتاح للمواطن التمتع بنمط من الحياة الصحية، مع توفير مساحة للعب الأطفال، وهذا يتحقق بغض النظر عن موقع الحي في السلم الطبقي، من منطلق أن هذا حق للإنسان، وعلى الدولة أن تؤمن هذا الجانب، وهذا ينسحب على التعليم والصحة والمواصلات، بل ثمة وسيلة للتواصل المباشر لطلب المساعدة في كل مكان. ولعل هذا يأتي من تمكن مفهوم الحق القائم على المواطنة بغض النظر عن مرجعياته. أي ذلك العقد الاجتماعي الذي تحدث عنه فلاسفة وعلماء اجتماع، تمكنوا من خلق البنى المتواشجة للوصل إلى معنى المدنية والحضارة والعلاقة بين الدولة والمواطن، كما في أدبيات جاك جان روسو، وهوبز، وهيغل، وغيرهم.
 لا شك في أن مقارنة الانتشار العلاماتي بين المدن العربية، وأي مدن أخرى تقع في المراكز الحواضرية، وتحديدا في الغرب، أو حتى شرق آسيا على سبيل المثال، سيشي بفقر المدن العربية التي تتفاوت في تكونها الإشاري والعلاماتي، وتوزيعها لمرافق الحياة المدنية بعدالة، بما في ذلك مسؤوليتها عن الإنسان، لا شك بأنه ليست كل المدن العربية على نفس القدر من السوء، ولكنها مجتمعة لا تقارن بالتطور العلاماتي والهندسة الحضارية للدول المتقدمة من حيث القدرة على رسم ملامح الحياة، وإسنادها إلى منظومة حضارية متطورة، تنهض على التعاقد المجتمعي، مع الحرص على مصلحة الطرفين، بما في ذلك خلق مفهوم هيمنة الدولة، وحضورها، والتي تعد ذات أهمية قصوى في تشكيل المنظومة الأمنية والاستقرار، لا عبر تقديم عبارات أو صور تعكس أهمية المواطن، بمقدار ما يراد منها تكريس السلطة الحاكمة، وتمكينها من خلال آليتي «التوزيع والانتشار» مع تجاهل توزيع العلامات المعنية بأمن المواطن بوصفه إنساناً.
لا شك بأن العقل المتقدم ينهض على التفكير في كل شيء، وعدم ترك أي أمر للصدفة، أو الحيرة، أو التساؤل، فثمة تفاصيل دقيقة تكاد تشمل كل جزئية، ولهذا فإن مفهوم الدليل، والكتيب، والتعليمات، والأسئلة، والنماذج، والتصنيف، هي نهج أوروبي، انتشر في معظم دول العالم، بيد أن تطبيق العلامات يخضع للمنظومة القانونية السائدة في المجتمع، ولهذا فإن هذا النظام لم يتطور إلى هذه الدرجة إلا بعد مراحل كبيرة من الوعي، والتجربة، وعبر التعلم من الأخطاء، ففي كل حادثة، تظهر إشارة أو علامة للتنبه إلى المنهج السليم للحياة، كالعبور إلى داخل الحافلة، وغير ذلك، ولكن هذه الإشارة لن تعمل ما لم يكن هنالك وعي مجتمعي عميق، أوجدته المناهج، والفنون كي يكون فاعلاً في العقل الجمعي، في حين أن المدينة العربية تكاد تفتقر إلى هذه الرموز والإشارات، إلا بتمثيلها الأساسي والبسيط أو السلطوي، بل إن هناك بعض المدن العربية تكاد لا تعترف بأهمية خطوط الشارع، كونها تعد ترفا لا داعي له، فالإنسان لا يشكل قيمة، إذا ما تعرض لأذى كونه لا يقع في خانة الاهتمام من قبل العقل الحكومي الذي لا يعمل إلا لتحقيق مصلحة المنطويين في مظلته من مسؤولين، وعاملين، بمن فيهم أتباعهم من الأقارب والأصدقاء، غير أن هذا المسلك طبيعة بشرية، ولكنه يتخذ شكله المقيت حين يتطور إلى حالة مرضية في ظل غياب مفهوم الدولة، والقانون، والمحاسبة التي لا تظهر حقيقة إلا عند رغبة الدولة بتحصيل حقوقها من المواطنين، في حين تتناسى واجباتها، أو ربما يلجأ إلى تطبيق القانون على فئة معينة، في حين يتناسى فئة معينة، وبذلك فإن النظام الإشاراتي والعلاماتي يكاد يكون معطلاً في معظم الدول النامية، وتحديداً على مستوى الممارسة التي تعد جزءاً من الخطاب الحضاري.
في الختام، نشير إلى أن الممارسة العلاماتية في الثقافة العربية تنتج رسالة قوامها أن المواطن العربي لا يشعر بانتماء لدولته، أو مدينته، ولا يشعر بأنه مدرج في خانة القيمة، ولهذا يتصرف باستهتار، كون الدولة غير منتجة للعلامات التي تبرز مسؤوليتها، ووجودها من منطلق الحرص على الإنسان، فمعظم الإشارات والرموز في العالم العربي تحيل في المعنى العميق إلى هيبة الدولة، وحضورها، وبذلك فهي لا تعمل ضمن منهج ثنائي، كما في الدول المتقدمة على الرغم من أن الأخيرة تدرك منظور الهيبة، ولكنها تضعه في دائرة القانون الذي يسري على الجميع، وبذلك يشعر الكل بالارتياح، مما يسهل فعل الإشارات والعلامات التي تحيل إلى أمن مجتمعي، وبذلك نستنتج أن النظام العلاماتي لا ينطوي فقط على بعد وظيفي، إنما يحفل أيضاً بقيمة نسقية كامنة، بالتوازي مع مدلولات رمزية عميقة.

المدينة والوظائف الحضارية للعلامات: قراءة سيميولوجية

رامي أبو شهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سلام عادل (المانيا):

    ان قيمة الانسان عندنا بعد موته وليس في حياته ومعيشته وهذا هو الفارق الكبير بيننا وبينهم فنحن لم نكرم احد من مبدعينا باسم شارع او تمثال لما قدمه الا بعد مماته وهم يعيشيون الحياة بكل تفاصيلها لانها بالنسبة لهم مرة واحدة ونحن نتمنى الحياة الاخرى

  2. يقول محمد منصور:

    المشكلة عندنا تتمثل في فقدان الذات المنسجمة مع هويتها وتراثها، ولهذا نحن في حالة من الذهول أمام ما حققه الغرب وهذا بدوره سسب لدى البعض حالة من الأنفصام، ونحن نعيش في حالة اضطراب تمنعنا من التقدم وتنظيم الأفكار فالأمراض الأجتماعية والفساد كلها تمنع من بناء نظام قائم على الفكر والأبداع ولهذا ستظل مدننا تعيش الفوضى وتفتقر للتنظيم لأن الساكن فيها يعاني من التشوه القيمي والمعرفي.

  3. يقول دينا. افروديتا:

    كلام واضح مفصل حقيقي وصحيح 100 % . معروض بطريقة راقيه ومفصلة وواضحة للجميع .. الحقيقة معلومة حتى لمسؤول في افقر دولة ثقافيه ومعرفيه ,, ولاكن دول كثيره عربيه وغيرها بمنطقه الشرق الاوسط يتظاهرون مجتمعين ومتفقين معا بانهم لا يفهمون ,, وذلك لمصالحهم المشتركة المستقبلية واحتمال اتفاقهم على ان يجعلو الصحهون دولة عظمى وتدمير قوة امريكا وبريطانيا _ واوروبا لاحقا لضمان تماسكهم واستفادتهم من الاموال الضخمه التي توزع لاخرين خلال كل عام ,, .
    لم اعلم ان باستطاعة جماعة ان يكونوا خبيثين ويتظاهرون بالطيب الحقد على كل العالم وافتعال صراعات وتحالفات مخفية لتدمير الاخرين واستهلاك قوتهم بالمقاومات والكر والفكر والتخطيط والمفاوضات لانهم يتجمعون للقضاء على كل شئ باستثناء الصهيونيه كزعيم اعظم جديد وهم الاتباع الثقات الغير متبدلين والمغروسين غصبا وقوه وجبروتا بمراكزهم, ليتسنى لهم سحق كل المخالفين من شعبهم وعدم التوقف للقانون ,, لان القانون الوحيد هو قانونهم وقانون سيدهم الجديد بالظهور ..اتمنى السلامة للطيبين وللدول واتمنى سحق زعيمهم الذي تجرأ بالظهور حديثا وصدفة بالصهوينيه..

  4. يقول حسين/لندن:

    مقال عميق ودقيق،،ورائع
    وعلى ذكر( الإشارات والعلامات)،وأهميتها ودورها في تشكيل الوعي الجمعي،،نجد عندنا في الدول العربيه صور الملك والرئيس والشيخ والأمير،،والتي بدورها تساهم في ثسكيل هذا الوعي وتساهم بعمليه غسل الدماغ،،،الانتماء والولاء وقد تصل إلى درجه العبوديه لذلك الزعيم،،،ثم تأتي أجهزه الإعلام لتضخيم قوه جهاز المخابرات في هذه ألدوله أو تلك لتشكل الرادع المطلوب من المواطن، وعليه التوقف عند الخطوط الحمر المرسومه وتشكيل هاله مزعومه وهيبه زائفه حول أجهزه الدوله والجيش والشرطه وبذلك يسهل ضبط سلوك الشعب ضمن الاطار المرسوم من قبل ذلك النظام
    وفعلا لا يجب أن نستغرب إذا علمنا أن المواطن لا يشعر بالانتماء لهذه الدوله أو تلك.
    تحياتي

اشترك في قائمتنا البريدية