المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل بوصفها نوعا من المقاومة

■ ما إن تتخذ مؤسسات رسمية أو جامعية قرارا بمقاطعة أكاديمية لإسرائيل حتى تجد الرد جاهزا بأن القرار غير مسؤول، وأن هذه الجهات المقاطعة غير قادرة على التمييز بين رأي سياسي ونشاط علمي، وأنه يفترض من عالم الأكاديميا التحرر من عالم السياسة، بل ولا تعدم من يدعي بأن هذه القرارات هي في الصلب من معاداة السامية، وهما ردان كانت حكومة المحافظين في بريطانيا قد تبنتهما في خطوة منها للتضييق على حملة مقاطعة إسرائيل التي يتبناها اتحاد الجامعات والمعاهد البريطاني (يو سي يو) الذي صوت منذ التأسيس عام 2007 على مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، إلا أن اللجنة التنفيذية للاتحاد حرصت على تعطيل هذه الحملة بالاستناد إلى الحجتين السابقتين.
في حديثه عن الأكاديمية الإسرائيلية في كتابه (فكرة إسرائيل تاريخ السلطة والمعرفة) يضع إيلان بابيه من الأمثلة ما يثبت أن الأكاديميا الإسرائيلية كانت مرغــــمة على خدمة الصهيونية، ويؤكد أن كل واحدة من الجامعات الإسرائيلية بدءا من السبعينيات كان فيها قسم خاص بالتاريخ اليهودي، بل إن بعضا منها فتح قسما باسم تاريخ أرض إسرائيل، أو باسم دراسات أرض إسرائيل، أبرز ما فيها أنها سعت إلى تكريس الدراسات الصهيونية واليهودية لخدمة الولاءات الإيديولوجية الإسرائيلية. من هنا فإني أرى أن حديثا عن فصل السياسي عن الأكاديمي وهي الحجة التي تبناها رافضو المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل هي حجة بائسة، لأن إسرائيل نفسها لم تنفذ هذا الفصل ابتداء، فما من شك أن البيئة الأكاديمية الإسرائيلية منذ البدايات خضعت للسياسة ولم تأبه بالإطار العام الناظم للدراسات التاريخية. والحال أن الغالبية العظمى من الأكاديميين الإسرائيليين هم أصحاب دعاية سياسية غايتها ترسيخ الرواية الوطنية، ومن ثم شرعنة ما جرى ويجري من سلب للأرض من سكانها الأصليين.
أقول الغالبية العظمى لأننا لا نعدم نقدا – وإن كان شحيحا – من داخل الأكاديمية الإسرائيلية نفسها، يرى أصحابه بالدليل القاطع أن الأكاديمية الإسرائيلية تستخدم من المنهجيات ما يتماشى مع الادعاءات الصهيونية بخصوص الأرض والشعب اليهودي. نذكر منهم – على سبيل المثال – سامي سموحة الذي رسم صورة عن الباحثين في العلوم الاجتماعية في إسرائيل في أوائل الثمانينيات تظهرههم أنهم يعملون ضمن توجهات متعجرفة عنصرية. وتجد في دراسات هؤلاء النقاد المهمشين – ومنهم علماء اجتماع في حيفا أو في جامعة تل أبيب- من يثبت أن الديمقراطية الإسرائيلية مجرد نظام مركزي عرقي لا عقلاني لا يستوعب أي شكل من أشكال الاختلافات العرقية والإيديولوجية، وأن لا هم للدولة سوى إيجاد مساحات أكبر لليهود على حساب العرب، حتى لا يكون للفلسطينيين في إسرائيل سوى هامش يضيق بهم جغرافيا واجتماعيا وسياسيا عن طريق الحكم العسكري، بما يعزز نظرة صهيونية لا تخلو من التحجر الذهني والغرور.
وإن كان الشيء بالشيء يذكر، فكما كيمرلنغ الرجل الأكاديمي اليهودي المقعد الذي لم تمنعه إعاقته من إعادة النظر بالأكاذيب التي قامت عليها دولة إسرائيل، وهو من ترعرع في إحدى الضواحي التي بنيت على أنقاض قرية قالونيا الفلسطينية، كما هذا الرجل فإننا نستعيد ستيفن هوكينغ عالم الفيزياء البريطاني الشهير المقعد حين تراجع عن حضور دعوة إسرائيلية لحضور مؤتمر سنوي لاتحاد الجامعات والكليات يرعاه شمعون بيريز. وهو خبر أوردته صحيفة الغارديان التي توضح استلامه رسالة من نعوم تشومسكي عالم اللسانيات المعروف موقعة من عشرين أكاديمياً يذكره فيها بسياسة التمييز الممنهجة التي تتبعها إسرائيل في تعاملها مع الفلسطينيين، مع تفاصيل أخرى يقرؤها الراحل هوكينغ الذي يتخذ قراره بعدها بأن يكون من بين المنضمين إلى المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل بسبب مواقفها السيئة تجاه الشعب الفلسطيني. بل إننا سمعنا مؤخرا بالإحالة إلى يشاي فريدمان الكاتب في صحيفة « مكور ريشون» أن عددا من الأكاديميين الإسرائيليـــين أنفســـهم ينوون مقاطعة مؤتمر علمـــي ينظمه الاتحاد العالمي لعلماء النفـــس والاجتماع للانعقاد العام المقبل 2019 في تل أبيب، وطالبوا بنقله خارج إسرائيل ردا على ما تقوم به إســرائيل من إنشاء مؤسسات إسرائيلية من مثل «ياد فاشيم» الرسمية التي أقيمت عام 1954 بموجب قرار الكنيست الإسرائيلي لتخليد ذكرى ضحايا المحرقة النازية، في وقت تدمر فيه القرية الفلسطينية ويطرد أهلها منها دون توقف.
لا يفوتني في هذا السياق استذكار ما أعلنته جامعة تشوان التكنولوجية حول قرارها بالمقاطعة الأكاديمية لإسرائيل، علما أنها تعد واحدة من أكبر الجامعات في جنوب إفريقيا. ولا أدل على جدوى هذه المقاطعة لمن يشكك فيها من استشراء الخوف الإسرائيلي منها، ومن ثم المسارعة إلى تشكيل لجنة لمواجهتها، بل إن خوفاً منها دعا الإسرائيليين إلى تهديد فندق في لوس أنجلوس برفع الدعوى عليه في حالة قبوله استضافة مؤتمر كان المقيمون عليه قد أعلنوا حشداً لمقاطعة إسرائيل في جامعاتها. وكذلك يتناهى إلينا وصف رئيسة جامعة بن غوريون ريفكا كارمي لهذه المقاطعة بأنها «تطور خطير للغاية». فلا غرابة إذ يجابه هوكينغ تعقيبا على مقاطعته التي ذكرناها آنفا بأنه يعاني شللا في الدماغ وليس الجسد وقد حان أوان موته.
عموما، نؤكد على أن الذهاب باتجاه التأكيد على أهمية المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل يدخل في الصلب من مكافحة ساحة إيديولوجية تطبخ القرار السياسي الإسرائيلي قبل تنفيذه؛ وهي الساحة التي تعج بمن يدافع عن إسرائيليته باسم معاداة السامية، ولا تجد غضاضة في تكريس إمكانياتها البحثية كي تبرر دور الضحية التي يلعبها الجلاد. وفي هذا رد على كل من يدعي فصلا قائما بين الواقعين السياسي والأكاديمي، أما لأولئك الذين يسارعون لإلقاء تهمة معاداة السامية، يلقونها كيفما اتفق، فنذكرهم بأن المقاطعة حملة لا علاقة لها بأية هوية إثنية أو دينية، وأنها في صميم إدانة كل أشكال التمييز العنصري أسوة بحملة المقاطعة ضد نظام الأبارتيد في جنوب إفريقيا، وهو درس علمنا إياه مانديلا حين التفت إلى تضامن دولي أجبر الأمم المتحدة على اتخاذ موقف حاسم أثمر عن نهاية نظام الفصل العنصري.
ولنذكر أننا في وقت صرنا نظهر فيه عاجزين عن أية مقاومـــة عسكرية ناجحة، لم يبق أمامنا سوى التطلــع إلى أشـــكال مقاومة أخرى، منها التوجه بكل إصرار نحو خطاب صارم يرفض كل أشكال التعـــاون الأكاديمي مع المؤسسات الإسرائيلية، كما يرفض أية مشاركة في نشاطات دولية أكاديمية مصممة للجمع بين الفلسطينيين والإسرائيليين في منبر واحــــد، لأنها توظف جميـــعها سياسيا ضد المصلحة الوطنيـــة، كما لا يجـــوز التردد في أي تعاون بحثي مع إسرائيل، وهو أضعف الإيمان.

 

المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل بوصفها نوعا من المقاومة

رزان إبراهيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    صوت حرّ رزين في زمن العبيد الحزين.لك شأو وسمو الكلمة المبيّن ؛ يادكتورة رزان.

اشترك في قائمتنا البريدية