المكسيكية فلور جاردينو… فوتوغرافيا الواقعية السحرية

حجم الخط
0

لم يكن التصوير هو الحلم أو الشغف الأول للمصورة المكسيكية فلور جاردينو (1957). التي هي الآن من أهم الفوتوغرافيين اللاتينيين، على امتداد الأربعة عقود الماضية. فمن خلال أعمالها مُتعددِّة التأويلات أصبحت أيضا الأكثر تأثيرا في الأجيال التي تلتها من فوتوغرافيي أمريكا اللاتينية.
في البدء، أرادت فلور أن تكون رسّامة، ومارست ذلك لفترة طويلة بالفعل، لكن يبدو أن ثمّة يدا قدرية أرادت لها شيئا مغايرا. فبينما كانت تدرس في كلية سان كارلوس للفنون عام 1977، قابلت جاردينو أستاذين في الفوتوغرافيا سوف يكون لهما الأثر الأكبر عليها. أولهما كاتي هورنا (1912 ـ 2000)، المصورة المجرية التي اهتمت بالسريالية والنسوية والطبقية في المكسيك، والتي أصبحت مشرفة جاردينو، حيث علّمتها كيف تستكشف الإشكاليات والثيمات والرؤى، التي لا تزال فلور تعمل عليها حتى الآن.
ثم كان هناك مانويل ألفاريز برافو. ولكي أقرّب لك أهمية هذا الرجل، فيمكن تخيل أن إمكانية دراسة الفوتوغرافيا على يد ألفاريز برافو (1902 ـ 2002)، أحد فناني أمريكا اللاتينية الاستثنائيين، الذي امتد تأثيره طوال القرن العشرين، يشبه أن تدرس الرسم على يد بيكاسو. ولم تكن فلور قد تخطت مرحلة المراهقة بعد حتى وجدت نفسها مساعدته في غرفة التحميض، منغمسة في الالتقاط من دروسه ومعرفته الواسعة بالفنون. ولسنتين علّمها برافو ليس فقط المهارات التقنية، لكن أيضا ما يحتاج أن يشعر به المرء ليصبح فنانا جادا: الانضباط والمثابرة، أن تكون منظمة ونقدية لأعمالها.
طوّرت جاردينو مهاراتها في غرفة تحميض برافو، وفي أيام العطلات اعتادت أن تلتقط الصور في جولات معه. ولأربعة عقود بعد ذلك، أصبحت هي نفسها صاحبة التأثير الأكبر على فوتوغرافيي أمريكا اللاتينية والمكسيك إلى يومنا هذا. صورها بالأبيض والأسود التي ركّزت فيها على ثيمات التعرّي والبورتريهات النسائية ومشاهد الشوارع واستكشاف ثقافات السكان الأصليين، ضُمَّت إلى المجموعات الرئيسة المعروضة في متحف الفن الحديث في نيويورك، ومعهد الفنون في شيكاغو، والمكتبة الوطنية في باريس، ومتحف لويس في كولن.
في الثمانينيات، حصلت جاردينو على وظيفة مصوِّرة حكومية في الريف المكسيكي حيث تُستخدم الصور التي تلتقطتها في الكتب المدرسية. وخلال تلك الفترة عملت تحت إشراف ماريانا يامبولسكي، وهي مصورة مكسيكية أخرى تركت أثرها على فلور.
لم تكن صور جاردينو فاتنة فقط في توزيع مساحات الضوء والعتمة (الأبيض والأسود) بل هي أيضا متعددة الطبقات، قابلة للتأويل من أوجه عدة. تحفِّز المتلقي على أن يبحث عن المعنى/المعاني وراءها. ليستكشف مساحات وفرضيات أوسع وراء عملها. يظهر الأسود عندها أحيانا قاتما تماما كالحبر، وأحيانا أخرى يتحرك بين درجات الرمادي، والأبيض إما ناعما أو مشوَّشا. ومن خلال هذه التأرجحات تبدو صورها لنا مُمتلئة بأسئلة عن الحياة والموت. نتتبع في عملها حركة الوقت بين الماضي والحاضر، وما يمكن أن يكون عليه المستقبل. أحيانا تكون الأزمنة جميعا حاضرة في الصورة نفسها. نرى في صورها مسيرة المرء من الحياة إلى الموت، متقاطعة مع حوادث طريفة، ألعاب طفولية، احتفالات شعبية طقسية، فولكلورية، جوانب أيروتيكية. وفي الكثير من أعمالها يمكن أن ترى حضور الجسد بوضوح، كسعي للحرية، بالعودة إلى البرّية.
«نساء رائعات» هي مجموعة فوتوغرافية استكشفت فيها فلور ثيمة ما الذي يعنيه أن تكون امرأة في هذا الكون. واحدة من أكثر الصور تأثيرا تظهر فيها صورة امرأة حبلى، في أشهرها الأخيرة، وهي داخل ما يشبه الشرنقة. لتجد نفسك تتساءل ماذا يمكن أن يعني هذا؟ أتولد المرأة من جديد (تخرج من شرنقتها) حين تلد؟ أتولد المرأة فقط حين تُنجِب؟ هل هذا التأويل الوحيد؟ ترتبك، ولا تستطيع أن تحسم كون الطريقة التي تلقيت بها الصورة هي الأقرب لما أرادته فلور. وهذا الأمر يحدث حين «تتعرَّض» إلى الكثير من الصور الأخرى في هذه المجموعة، حيث يصعب اختزال وصفها بالكلمات. لأنها وككل شيء سحري تواجه اللغة صعوبات في الإمساك بجوانبه والتعبير عنه على نحو دقيق.
بدأت فلور عملها في فترة ازدهر فيها أدب الواقعية السحرية عند الأربعة الكبار (ماركيز، ويوسا، وكورتاثر، وفوينتس). ثمة نسق تاريخي إذن لهذه الثيمات التي تظهر في أعمالها. لا تبدو فوتوغرافية جاردينو بعيدة عن هذه العوالم التي نراها في «مئة عام من العزلة»، أو قصص كورتاثر، أو «بيدرو بارامو» لخوان رولفو: حيث يمكن القول إنها الممارسة الفوتوغرافية لمفهوم الواقعية السحرية. فعملها ظل دوما على رتبط بجذوره الثقافية المكسيكية حتى إن لم يتقيد بمعالم المكان. صورها تجعلنا نتأرجح بين الواقع والحلم، نتشكك في القدرة على الإمساك بحقيقة المشهد أمام غرابة تكويناته، والوقوف طويلا لتأمل التركيب، الرؤية الجمالية، والمعاني المبطنة ودلالتها التي بطبيعة الحال تُعبِّر أكثر من أي شيء آخر عن أرق وتساؤلات جاردينو، كما هي الحال في كل ممارسة فنية أصيلة.

ناقد مصري

المكسيكية فلور جاردينو… فوتوغرافيا الواقعية السحرية

محمود حسني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية