بكلاسيكية يبدو أنها متعمدة، يكرر مصعب النميري في ديوانه الأول «النجم أوضح في القرى» صور الريف ـ القرية ـ الصحراء، أو كل ما هو لا مديني، ويرى من خلال هذه الصور، عوالم حياةٍ بسيطةٍ تخاف دوماً لحظة الانفجار، وترقب بصمت وتيقّن نهايتها المحتومة، فلا خيوط العناكب ستعمّر، وليست العناكب نفسها التي ستقوم بتدمير هذه الخيوط، ولا الشتائل قادرة على الاستمرار في إنتاج الخُضرة. هنالك تهديد ما واضح لقرية الشاعر التي يكررها بين نص وآخر، تهديد يتضح أنه يساوي وضوح صور الريف بالتجلي، إلا أن ما في الريف من تفاصيل يمكن تحسُّسها بالأنامل التي لا يمكنها تحسُّس الخطر المقبل بشكل مباشر.. هو حدْس الجدات والحصادين الذي لا يخيب، بقدرة انجلاء كل شيء أمام أعينهم.. فهم ريفيون. عندما تطرأ المدينة على النص يهرب الشاعر من ازدحامها، فحضورها دائماً يبدو خلف ظهره، يهرع من شوارعها وإسمنتها الصلب إلى البحر القريب منها، ينظر منه إلى البواخر، أو الضفاف الأخرى، يبحث فيها دائماً عن الأفق الذي لا تحده الأبنية، يقول:
ريح البويراز تهبّ على ياقات الصيادين
ويعلو موج البحر على أهلي
يرجمني الناس بأسئلة
لا أعرفها
يبدو الخوف أمثولة النص بما يطرحه من أسئلة على الناس، الذين تتعدد مصادر ذعرهم، فالبشر في نص الشاعر متعبون، ويبدو إصرارهم على تعقب آثار الحياة، إنما هو انشغال عن التفكير بالخوف، في ما يبدو الكلب سعيداً بألا خوف من المقبل يشغله عن النباح أو تتبع آثار الطعام، أو اللعب مع الصبية.. لكن الكلب ذاته يفكر في ما حرمه من بيت يقيه الأمطار، وتنتابه العدمية أحياناً حين يقرّ بأن لدى البشر أدوات لا يملكها.. كالكتابة مثلاً.. فيَرِد:
هذا الكلب الأصهب
لا يعرف شيئا
عن جلد الذات
ويبدو ممتنا للخالق
أن رعرعه كلباً
حين يفكر
كيف يخاف الناس من الآتي
ويرغب
في أن يكتب شيئا
حين يرى الألواح البيض
قصائد شتوية تتتالى مستقيةً مفرداتها من معجم الفصل الأشد عنفاً فوق رؤوس الناس الذي يعملون في العراء، ويبدو أن الصيادين دائمو العمل في الشتاء، لذا فالطين والأمطار والأمواج العالية والرياح والبرد، هي تفاصيل الشتاء الذي لا يغادر النصوص، بل يتيح للشاعر تحريك هذه التفاصيل لرسم ما يراه من خلف نافذته أحياناً، أو وهو عائد بين الحارات إلى بيته، يبحث عن الدفءِ.. الدفءُ ذاته الذي يبحث عنه الكلب والهرة في الشارع، وكذلك الناس والعشاق والطيور.. ومن ليس لديهم أعشاش يبيتون إليها بعد كدر. الشتاء ذاته الذي تبدى مباشراً لا رمزياً في نص الشاعر، يعود في النص ذاته ليبدو صورةً للطائرات التي تمطر جوبر (حي في دمشق أمطره النظام السوري بالقذائف والصواريخ والبراميل ـ عاش فيه الشاعر سنيَّ فتوته)، فلا المطر وليد الغيم هنا، ولا الصراخ وليد البرد.. إنها الطائرات التي قدّرَها البغاة لكي يمحو فيها الأحياء الهامشية على أطراف المدينة.. كجوبر، يقول:
ثمة في «جوبر» غيم
يتشكل من لحم الناس
ويصعد
في شكل امرأة
ثكلى
تتميز صور النميري في معظم نصوص ديوانه بالحركة، حيث يستهلها دائماً بفعلٍ كثيراً ما يكون لازماً، وفاعلْ.. (نزل الغيم، نام الحرس، رجف المقبض، إني أتنبأ).. في ما يسبق مجمل حركاته وصوره بنداءات لشخوصه لكي يشهدوا ما يحصل، يطلب دائماً منهم القدوم أو السمع أو الحركة ليسمعوا ما يقول، فتكثر ياءات النداء للشيوخ والجدات والأقمار والعشب وأوشحة النساء وأصوات الذئاب… هنالك شاهد دائماً يطلبه الشاعر، معتقداً أنه من سيستطيع فهمه.. يصر بأنه يخاطب هؤلاء الأشخاص وتلك الأشياء، لأنهم يجيدون رؤية النجوم في سماء الريف، وإطعام النوارس، ويجيدون الخوف.. حتى إن كانت تلك الشخوص أشياء يستدعي فيها الشاعر روحاً ما.
تأخذ مدينة إسطنبول من النميري موقعاَ جغرافياً بناءً للنص والصورة (يقيم فيها الشاعر منذ ثلاث سنوات وقد أنجز فيها هذه المجموعة)، ويبدو حضورها الجلي من خلال جسور مضيق البوسفور وصياديه، ومن خلال القطط والكلاب التي تنتشر في مختلف الأزقة، ومن خلال النوافذ المطلة على البحر، إلا أن ما يبدو فيها أيضاً هو المساحة التي عاشها الشاعر مستحضراً فيها ذاكرته في سوريا، بلدة جدته، جوبر، أهليه القدماء، فيأخذ من حاضره فيها نصاً، ومن ذاكرته آخر، منوِّعاً وحذراً من خلط هذا بذاك وإن بدت بعد النصوص مربَكةً بين الحاضر والماضي، فكأن الصياد المتعب، قد أنهكته الحرب، وهو في الواقع ما لم يحصل.
يعنون النميري جزءاً من المجموعة بعنوان «تحريف الوصايا»، يشير في تلك النصوص إلى الريف ذاته الذي افتتح فيه المجموعة، متهماً المدينة بخيانته، فيحمل جزءاً من وصايا الريف ليتلوها وكأنها ما زالت في كتيباته القديمة وسردياته الشخصية، فيما يجد ما حُرِّف منها مرتداً بصوت المدينة المرعب.. فيقول
جاءنا الغزاة بالحديد وخرجوا بالبابونج
جاءتنا العواصف بالثلج
وذهبت محمّلة بالقصائد
ورائحة الحطب في التنك المخروم
نظن دائما أننا على وشك الفناء
ولا ندري ما الذي ستؤول إليه أمور أهل الأرض آنذاك
تبلغ المباشرة ذروتها، ويرمي الشاعر رموزه وكائناته خارج النص أحياناً، ليصرخ بصوت عالٍ، رداً على الرصاص والطائرات التي لاحقت كائناته المحببة في مختلف النصوص السابق.. ليقول لكل من خانوا وصايا جدته، ومن أحرقو ريفه الجميل، ومن رموه على ضفاف بحر بعيد، وجعلوه يحمل وزر الحفاظ على الوصايا فيقول:
حين تنشب الحروب
ستظل ورود الشرفات على قيد الحياة
وتشتعل المعارك في جبال القرى
سيموت الفلاحون والحصادون وسائقو الشاحنات
لكن المحاصيل
ستظل تتدفق إلى رفوف المتاجر
ليست المدينة وحدها.. إنهم أيضاً القتلة الذي «جاؤوا من الجبال»، كأنهم هولاكو يريد تدمير كل سنبلة لمعت تحت يد حصّاد.. يتسع الصوت في ختام المجموعة ليقول:
أعداؤنا جاؤوا من الجبال
بالسواطير وشعل النار
وحرقوا البيادر والقرى
جاؤوا من سفوح يكسوها الثلج
بفرو القنادس والخيول
ونزلوا إلى أنهارنا وحقولنا
كانوا يعرفون
كيف تنهار الحواضر وتختفي
خلف حصون الحجر والمعدن
من اليمامة إلى أغادير
كيف تتنصب المدائن
على ركام مدائن أخرى
من اصطخر إلى شيراز
«النجم أوضح في القرى» مجموعة شعرية لمصعب النميري، صدرت عن دار ممدوح عدوان، تقع في خمس وثمانين صفحة من القطع الوسط.
نبيل محمد