يصطدم اتصال الهوية بالزمان بمشكلة وحدة الأنا الموجودة بوجود الذات في العالم؛ وأمر من هذا القبيل يجعل من زمانها أولانيا ومتعاليًا وثابتًا بدروه ما دامت وحدة الأنا لا تعني واحديتها فحسب، بل أيضًا ثباتها؛ والحال أن الزمان هو تخارج تجديلي لا يقوم على التقدم نحو الأمام، بل على تفاعل بين التقدم والتقهقر.
ومعنى هذا إننا نتقدم في العالم نحو انفتاح على الآتي، بيد أننا ننظر إلى هذا الانفتاح من زاوية الرجوع إلى انفتاح الماضي على ما نتقدم نحوه، وفحص الآتي في ضوء الماضي والعكس صحيح. والمقصود بالتخارج النفي بالسلب الذي يتحكم في التجديل بين المتقدم نحوه والمتقهقَر نحوه؛ أي أننا نتعرف الزمان الآتي في ضوء ما ليس عليه الماضي في حركتنا نحو المستقبل، ونتعرف في الآن نفسه على ما ليس عليه الآتي في ضوء ما كان عليه الماضي. هذا التجديل الزماني يُحدد ذواتنا بتحديد شكل وعينا الخاص، ولا يتيسر هذا إلا في ضوء المعيش الذي هو في نهاية المطاف الحوار التجرباتي القائم على القياس التجرباتي (انظر المقال السابق: الهوية والزمن والتجارُب)، بما يسمحان به من إمكانات لفهم اتصال الوعي بالزمن وتشكل الهوية
نحتاج- إذن- لكي نقدم إجابة ممكنة لما قيل أعلاه إلى فحص أطروحتين: أطروحة إدموند هوسرل، وأطروحة بول ريكور؛ فأطروحة الأول تعمل على تحديد الهوية بوساطة مفهوم الزمانية الذي يُعَد الوعي بموجبه سيولة زمانية؛ ومعنى هذا أن كل ذات تمتلك ديمومة داخلية منفصلة عن الانطباعات الخارجية وغير متأثرة بها. ويعني هذا استخدام تعليق الحكم الظاهراتي (إبوخي) أيضًا حيال العالم الخارجي بتغيراته المختلفة؛ أي وضعه بين قوسين في إدراك الزمانية؛ والمقصود بهذا مراعاة الوعي الخالص، وديمومته الخالصة التي تُخالف الزمان الكوسمولوجي الذي هو زمان كل خارج – شيئي. ويفضي هذا التصور إلى عد الوعي من طبيعة غير شيئية، أو عدم عده من طبيعة منفصلة ملتصقة بالأشياء؛ فهو وعي غير ملموس. ولا يعني هذا أن هوسرل يلغي الزمان الخارجي؛ فهو يأخذه بعين المراعاة، لكنه ينظر إليه من خلال التجارِب (بمعنى العادات) التي تعيشها الذات، وتساهم في تكوين حكايتها الشخصية؛ بيد أن الذات لا تتلقى هذه التجارب على نحو سلبي، بل تعمل على تأملها ونقدها وإعطائها المعنى الذي تُريده. ويستعيد الوعي الخالص بفعل حركته هذه حيال التجارِب تحكمه في الزمن وسبكه.
إذا كان هوسرل يأخذ التجارب الشخصية بعين المراعاة فإن الوعي الخالص الذي يفحصها بغاية التحكم في الزمن يبقى متعاليًا جوهرانيا؛ وهذا ما ينبغي نقده في إطار القياس التجرباتي والتجديل بين التقدم والتقهقر، اللذين يُعدان مجال تبدي الزمان بوساطة تقدم الوعي نحو ذاته، بتعرف نفسه فيهما من طريق فحص مكتسباته في العالم، عبر المرور من التطلع نحو التحقق. وهكذا يكُون الوعي غير سابق على التجربة، ونتاجَ ما يتجارب في طياتها من تجارب سابقة وآنية؛ أي تبادل التجارب في اللحظة الحاضرة جدالَها في نطاق المفيد للذات في ضمان بقائها وتحسينه. ويتحول الزمان الكوسمولوجي- في إطار هذا التجارُب- إلى زمان فَهْمِي؛ حيث يتبادل القبل والبعد فروقهما في ما بينهما بغاية تأسيس المعنى الذي هو تلافي العناء، ومغالبة مرض الزمان نفسه (الزوال). وبهذا يكُون الوعي نتاجًا مُتكونًا في الزمان نفسه وملتصقا به، لا متعاليا عليه؛ أي الإحساس به بوصفه تَجارُبًا ذاتيا وتجاربًا بينذاتيا (مع ذوات أخرى). ويشتغل- في قلب التضافر بين الوعي- في نطاق التجارُب-والزمان القياس التجاربي القائم على المقارنة بين ما كان في تعدده والصيرورة الجارية التي لم تستكمل بَعْدُ تحققها؛ أي الفرق القائم على المسافة بين ما مضى والآن الذي يأتي. ويحدث- في إطار هذا التجديل القائم على الفرق- الاتصالُ بالعالم (الذي له صفة جدال تجاربي في الراهن) والانفصال عنه (الذي له صفة تطلع لم يتحقق بعد في العالم).
وتتمثَل أطروحة بول ريكور في كونه حاول حل معضلة التعارض بين الزمن الكوسمولوجي (أرسطو) والزمن النفسي- الروحي (سانت أوغسطين) بافتراض زمن ثالث هو الزمن التمثيلي، الذي تُمثله الحبكة؛ ومن ثمة لم تَعُد الهوية عنده نتاجَ وعي خالص يُعيد التحكم في التجارِب بوساطة تأمله الخاص، بل صارت ماثلة في فعل استعادة حكاية الذات الشخصية. لكن حل بول ريكور هذا لا يستبعد الوعيَ الخالص؛ فقد كانت الظاهراتية إحدى مصادره المعرفية؛ ومن ثمة فهو يحافظ على كون الوعي الخالص ضامنًا لوحدة السيولة الزمانية؛ ويتجلى هذا في تركيزه على تجميع آناء الحاضر (حاضر الماضي- حاضر الحاضر- حاضر المستقبل)، وجعله نوعًا من تسلم الميت المنصرم واستقبال الآتي. لكن بول ريكور عمل على تلمس هذا الوعي الظاهرتي الضامن للديمومة ضدا على هوسرل في مستوى العمل والحبكة؛ حيث يصير الوعي ماثلًا في فعل الحكي، ويُعَد هذا الأخير «حارس الزمن»، ولا يكون الزمن المفكر فيه إلا محكيًا. لكن قول بول ريكور بالزمن المفكر فيه يعني وجود زمان غير مفكر فيه؛ وهذا ما لم يتنبه إليه؛ وهو كافٍ لجعل الزمان مشكلة غير محلولة أو محلولة جزئيا في حضن الحكي؛ ومن ثمة يُعَد ما لم نَكُنْه مُحددًا للهوية ايضًا. إن القول بأن لا زمن إلا الزمن المحكي يطرح مشكلة؛ ذلك أن الزمن غير المحكي لا ينفلت بدروه من حركة الزمن. إن الأمر يتعلق- هنا- بفعل استعادة الحياة الماضية؛ فهو فعل وعي متأمل بدروه ومتحكم في الزمان (في ما يستعيده)، ومتصل بموضوعه ومنفصل عنه في الآن نفسه. هل الزمان يُغلفنا إذن؟ إذا كان الأمر كذلك وفق تصور بول ريكور فإننا نكُون جزءًا منه وفعل تاملنا إياه كذلك؛ ومن ثمة لا يتحقق الانفصال عنه الذي يسمح بتأمله؛ وهذا كافٍ لجعل فهمه بوساطة الحبكة والفعل مشكلة في حاجة إلى حل. ربما نحن نعيش في الزمن بوصفه طية، ينطبق علينا من دون أن يغلفنا، مثل ورقة مطوية، لا نوجد في قلب الورقة الصقيل المسطح، وإنما على سطحه المطوي على نفسه.
أكاديمي وأديب مغربي
عبد الرحيم جيران
الشكر الجميل والصادق للأديب المتفلسف د. عبد الرحيم جيران على كل المقالات والنصوص الماتعة، في ‘ زمن’ يجثم على ‘ الوعي’ بتقل لا يصبر على أوهامه، فيرفعه عالياً إلى جغرافيات اللاوعي، وهنا أسألكم صديقي العزيز عن مصير اللاوعي في مواجهته للزمن والسرد؟
تحيات واحترامات
شكرا صديقي العزيز باحث مغربي على جميل التفاعل، ولطيف التواصل، طيب.. سأخصص المقالة المقبلة لهذا السؤال، وأتمنى أن أفلح في المهمة، مودتي
لابأس ادا سمح لناالمنبر وشكرا اضع فقط بعض الحروف تحت ظل هداالنص الأدبي الفلسفي بين قوسين الفلسفة بحرلاشاطئ لها الكلمة المتميزة عن اخواتها تجرك الى عالم من الكلمات قد تكون متشابهة وقد لاتكون فاالأستاذ المحترم يأخدنا مرة الى عالم الحب ومرة الى عالم الهوية وهده المرة الى عالم وهو نفسه الهوية والزمن ولهده الكلمة الأخيرة اكثرمن تفسيرواتمنى الااكون مخطئا وعلى سبيل المثال وقفت معه ساعة من الزمن .
ونقول ايضاالوعي Cognition: كلمةٌ تدلُّ على ضمِّ شيء. وفي قواميس اللغة العربية وَعَيْتُ العِلْمَ أعِيهِ وَعْياً، ووعَى الشيء والحديث يَعِيه وَعْياً وأَوْعاه: حَفِظَه وفَهِمَه وقَبِلَه، فهو واعٍ، وفلان أَوْعَى من فلان أَي أَحْفَظُ وأَفْهَمُ.
شكرا الصديق العزيز محمد بالي على جميل التفاعل، وكريم التواصل، وعلى لطيف الإضافة، مودتي
يستمر النقد و الأدب باستمرار التفكير، و الهوية من بين المجالات التي يتجسد فيها التفكير بقوة، طالما أنها تنحت – أي الهوية – في عالم التجريد بالموازاة مع وجودها الأنطولوجي، في جدلية الزمان والهوية واتصالهما بوجود الذات، و بالتالي فوجود الذات في العالم لا مناص منه في عملية التحديد الهوياتي في علاقته بالوعي الخالص وبالزمن المقترن بهما، لكن هذا الوجود يصطدم بعقبة واحدية الذات، الشيء الذي يجعل من الجدلية المطروحة أكثر حدة و عمقا، ذلك أن الوعي الخالص و إن كان ذاتيا خالصا و لكن لا يمكن بوجه من الوجوه إلغاء الوعي الثقافي أو الجمعي، و إذا ما عدنا أدراجنا صوب الميثولوجيا اليونانية و حاولنا عقد محاكاة للوعي بصيغة العقل نجد حضورا لهذه الثنائية، متحدثين هنا عن العقل الكلي الذي عبر عنه هيرقليطيس ب”الإيتوس” و أنكساكوراس ب”النوس” و هو المنتج للثقافة التي تنتج بدورها العقل الجزئي الذي يفرز الوعي الخالص الذي ينتج تواضعات ثقافية أخرى، و بهذا فالوعي الخالص نتاج للعقل الكلي، أو بعبارة أخرى العقل المكون (بكسر الواو) منتج للعقل المكون (بفتح الواو)، و لما كانت الهوية متصلة بالزمان بوساطة جدلية الماضي و الآتي، و بالعودة إلى “بول ريكور” الذي وضع الزمانية كشرط للهوية، ألا يمكن الحديث هنا عن هوية زمانية ليلية و أخرى نهارية ؟ أو بعبارة أخرى أيباح في الليل ما يباح في النهار؟ خصوصا أن الذات تكون أقرب ما يكون إلى السماء و إلى المثالية ليلا، من خلال تمثلات اندفاعية تجعل من التطلعات سهلة التحقق، لكن عندما تستيقظ الذات صباحا تصطدم بالواقع قتتلاشى تلك التطلعات الليلية، لنأخذ مثلا ” شابا يحب فتاة معينة يكون تأويله لذاته و لطموحاته في تملكها وجموحه في تحقيق هدفه بالليل شيئا، لكن ما تبزغ شمس النهار حتى تخفت تلك الرغبة وتصبح تلك التطلعات شيئا أخر” خاصة أن الزمان ليس دائريا، و بين رغبة الليل و خفوت الرغبة بالنهار هناك توتر هو ذاته القائم بين التطلعات و التحقق، و هو ما تعمل الهوية السردية على تمثله.
شكرا صديقي محمد على لطيف التعليق، وجميل التفاعل.. الكلي متعال، وهو مرتبط بالعالم، والوجود فيه فهما، لا ممارسة، فهذه الأخيرة تتعلق بالحسي- الجزئي، إن تعذر القبض على الكلي هو مرتبط بلا محدوديته مقابل محدودية الذات.. أما ثنائية الليل والنهار فربما كانت مرتبطة بالتوتر بين زمان التخفف وزمان الثقل، ومن ثمة فهي متصلة بالنفسي أكثر من أي شيء آخر.. مودتي