يتصل الربط ـ في العنوان أعلاه ـ بين النفسي والاجتماعي في تفكر الهوية في الحكي بمجموعة من الأسئلة الأسس: إذا كانت الهوية مثارة في النظريات النفسية ـ بهذا القدر أو ذاك من الأهمية ـ فما طبيعتها؟ وأتعد نفسية خالصة؟ أم هي نتاج تفاعل الذات ـ وهي تتشكل لتكتسب قيمها الخاصة ـ مع محيطها الاجتماعي؟ وهل يمْكن فصلها عن الآخر الذي هو معني بتعرفي وتأويلي بوصفي هوية؟ لا تعنينا هذه الأسئلة إلا في مجال الحكي الذي نحاول فيه بناء تصور للهوية مغاير، بما يعنيه هذا من فحص للنفسي في إطار عدم فصله عن البناء الحكائي.
لا بد من أن نذكر قبل أن نحدد الترابط بين النفسي والهوية الحكائية (لا السردية)؛ بشروط خمسة، نرتبها على النحو الآتي: أ ـ عدم الأخذ بمفهوم اللاوعي لأنه ضبابي، ولا يمكن الركون إلى صحته؛ خاصة النظر إليه في ضوء الكبت المؤسس على اللبيدو ورمزيته. ب ـ عد النفسي متصلا بما يترتب على التحققات في علاقتها بالتطلعات (التصورات) من نتائج مرضية أو مخيبة. ج ـ عد النفسي مشكلا في هيئة أزمة تتوازى مع الأزمة في البنية الحكائية؛ حيث يكون عدم الرضا عن الذات متصلا بالتحققات المخيبة، أو بعدم استجابة العالم للرغبة والإرادة، أو انتصاب المعوقات والحواجز في طريقها. د ـ يظهر النفسي الحكائي في مرحلة معينة من التكوين المعرفي ـ الخلقي ـ النفسي، وهذه المرحلة هي تلك التي تصير فيها الذات قادرة على إنتاج قيمها الخاصة وخلقها المغاير للتخلق «كارلو موازو: المرحلة الرابعة: الأب الشخصي parent personnel». هـ ـ عدم فصل النفسي عن التعالق بين الفعل والزمان.
تقتضي الشروط الخمسة المذكورة أعلاه النظر إلى الهوية الحكائية ـ من حيث هي مؤسسة في جانب منها على النفسي ـ من زاوية عدم فصل هذا الأخير عن السياق الاجتماعي الذي يجري فيه الفعل الحكائي (الممارسة بغاية تملك الموضوع أو الكينونة)، ويجري فيه بناء الذات في الآن نفسه. ولربما كان النفسي أكثر حضورا في تحديد الهوية ماثلا في انشطار الذات على نفسها. ويتخذ هذا الانشطار طبيعة انقسام في الأنا، له هيئة حيرة أو تردد؛ وهو مواز لمكون الأزمة في بناء الصيرورة الحكائية؛ حيث تنشأ خاصية عدم التوازن (بريمون) التي تعبر عن ارتباكات ثلاثة: أ ـ ارتباك معرفي (ضبابية الحل). ب ـ ارتباك خلقي (الاصطدام بالتخلق: الروادع ـ القواعد). ج ـ ارتباك نفسي (التنافر بين الرغبة وما يوفره العالم من ممكنات للذات). ويعد هذا الانشطار النفسي في بنية الذات ـ الموازي لمكون الأزمة الحكائي ـ متصلا بشدة بالهوية المتخللة التي تراجع فيها التطلعات في ضوء المتحقق منها، وتنشأ فيها التجارب الذاتية؛ حيث ينتصب الأب الشخصي ـ بالمفهوم الذي يبنيه به كارلو موازو ـ مبديا تفرده القيمي ـ الخلقي.
نحتاج ـ إذن ـ لفهم النفسي في بناء الهوية الحكائية إلى بناء فهم تشكل الذات المنشطر (الذي يتضافر فيه البناء الحكائي وبناء الذات معا) على أرضية الاتفاق مع النموذج أو الخروج عنه؛ والنموذج ماثل ـ هنا ـ في الصور (القوالب) النمطية التي يضعها المجتمع أمام الذات الفردية، لكي تكتسب من جهة الاعتراف بصلاحيتها الاجتماعية وشرعية تنصيبها اجتماعيا، ومن جهة ثانية لكي تستفيد من شروط البقاء الجيد، كما هو مسنن في السمت الاجتماعي المهيمن، بما يعنيه هذا من اكتساب للحظوة على مستوى توزيع الخير العام؛ فكل التطلعات مقامة على التملكات الموضوعية أو الوجودية، وهي مرتبطة باستضمار نماذج الكينونة التي يوفرها النظام الاجتماعي، أو رفضها أو وضعها موضع شك. ولا يعد التوتر الذي يفضي إلى تشكل المظهر النفسي (في تواز مع الأزمة الحكائية البنائية) ناجما عن عدم تحقيق الذات نموذجا من النماذج النمطية في تطابق مع الرغبة، أو عن عدم تحقيقها البدائل النافية للنماذج وحسب، وإنما ناجم أيضا عن عدم تحقيق تفردها في تحقيق تطابقها مع النموذج، أو في تحقيق نفيه؛ فكل هوية حكائية هي قائمة على الاستثنائي؛ ومن ثمة لا تتأتى الأزمة ـ في اتصافها النفسي ـ من علاقة التوتر بين نوع التطلع ونوع التحقق وحسب، بل تتأتى أيضا ـ ولربما في كثير من التأثير ـ من طبيعة الكيفية التي تتحقق بها؛ أي التفرد في الفعل الذي يمنح الذات، حتى في حالة عدم تحقيق تطلعها، سمات مميزة دالة على الكيفية التي بنت بها ذاتها.
لا يمْكن فصل النفسي المرتبط بالانشطار والأزمة والنموذج والاستثنائي عن البنية الجدالية التي يوضع فيها الحد ـ الأنا الخاص بالذات. وقبْل إيضاح المقصود بالبنية الجدالية يجمل بنا رفض الموقف الظاهراتي، الذي يرى أن الأنا قبل وجودها في العالم ـ بوصفها وحدة نفسية ـ فيزيقية ـ هي معطاة لنفسها بعدها هي عينها الفريدة. ونقيم هذا الرفض على حجة أن الفرادة قد تكون واردة على المستوى البيولوجي ـ النفسي (الغريزي) ـ العضوي، لكنها غير كافية في جعل الأنا هي عينها محققة فرادتها المبنية على الاستثنائي الذي هو اجتماعي ـ خلقي بالدرجة الأولى. ولكي تحقق الذات فرادتها الاستثنائية تحتاج إلى فعل ذلك في نطاق الاختلاف الذي يمثله الآخر. ومن ثمة لا تدرك هوية الذات ـ في اتصالها بالنفسي (الرضا عن الذات أو الخيبة) ـ إلا بإدراك حدها الخاص المختلف، الذي ينشأ بوساطة ما يمنعها من الفعل أو يقيم الحواجز والمعوقات في طريقه. وليست البنية الجدالية في نهاية المطاف سوى البنية الصراعية التي تميز كل حكي؛ حيث المواجهة حتمية بين الرغبة وموانع معينة يمثلها الآخر الرمزي (القواعد ـ السنن). وينبغي عدم فصل هذه البنية الجدالية عن التمثلات التي ترغب الذات في ترسيخها حول نفسها لدى المجتمع (كيف ينبغي النظر إليها)، وعن مدى تقبل من يمثل الآخر الرمزي لهذه التمثلات الخاصة. ولا يمكن فهم الاستراتيجيات النفسية في التعبير عن الفعل إلا في هذا النطاق؛ حيث يبنى وفق عمليتي الإخفاء والإظهار، ووفق شدة الرمزي وقوته؛ وذلك بغاية حماية الذات لنفسها من الانكشاف.
تدعو معالجة النفسي والهوية أيضا إلى موضعة الأنا في الزمان بمراعاة التجديل بين التطلع والتحقق؛ وينبغي فهم الأنا، لا بوصفها فاعلة فحسب، بل بوصفها أيضا حالات نفسية متصلة بالفعل من حيث هو صيرورة. ويمكن الحديث ـ هنا ـ عن ثلاثة أنماط من النفسي: أ ـ النفسي المتطلع المتجه نحو الأمام (الأمل ـ الحماس)؛ ب ـ النفسي المرتكس نحو الماضي (الندم ـ اليأس ـ الحسرة)؛ ج ـ النفسي الإشكالي المرتبط بالحاضر (التردد ـ الشك ـ الحسم).
٭ أكاديمي وأديب مغربي
عبد الرحيم جيران
إن التفكر في الهوية النفسية سواء بطابعها المحض أو في ضوء التفاعل بينها و بين المجتمعي الذي يكتنفها وتنبجس فيه يتجسد في الحي لا السرد، لأن الوعاء الذي بامكانه احتضان ذلك التفكر هو الحكي لكونه إجناسيا عكس السر فهو غير إجناسي، و أيضا الأخذ بعين المراعاة خاصية البناء التي تشترك فيها الذات مع الحكي، علاوة عن التوتر القائم بين التطلعات و التحققات في الذات و في فعل الحكي، و ما يترتب عن ذلك من أزمة أو رضى، أزمة الحكي وعدم تحقق تطلعات الذات في العالم، أو الاستجابة و الرضى المتمخض عن التحقق.
و لعل تمثل الهوية الحكائية للنفسي تحتاج إلى فهم تشكل الذات المنشطر، بين الخضوع للقالب الجمعي، أو إعلان العصيان في وجهه، و بالتالي فتحديد الهوية رهين بالاستثنائي المفرد للذات عن غيرها في مسألة تحقيق التفرد في تحقيق التطابق مع النموذج الثقافي، و ذلك له ما يبرره خاصة إذا نظرنا إلى الثقافة الإنسانية المبنية أساسا – من جهة أولى – على المعرفة و المقدرة الجمعية على ترويض الطبيعة و السيطرة عليها، و انتزاع الخيرات القمينة بتلبية الحاجات الانسانية، و في ذلك يتبدى التفاعل بين الذات و الأخر ، و كون علاقات البشر المتبادلة تتأثر عميق التأثر بمدى ما تتيحه الثروات الحاضرة مع تلبية الغرائز، و الفرد بالذات يستطيع أن يدخل في علاقة ملكية مع علاقة ملكية مع فرد أخر، أو يتخذ منه موضوعا جنسيا، أو طرفا معاديا في مسألة توزيع الخيرات المتاحة، فينعكس ذلك على الذات التي تحاول تجاوز الأخر في سبيل إرضاء نفسها، مع إمكانية الخيبة في تحقيق ذلك، و هذا لا يخلو بتاتا من مفهوم الإكراه عن طريق وسائل الردع و القهر الممنهجة من قبل الأقلية على الجموع بعد وضع جمعي للمبادئ و القواعد الثقافية التي يكد فيها الجميع، وذلك بدريعة كون الذات عدوا للحضارة و الذات والقواعد التي حظرته، بحيث أن الإكراه على العمل و نكران الغرائز سيتحول إلى استبطان داخلي ذاتي يسمه طابع العدوانية للثقافة و الأخر، بعد خيبة تحقق نتيجة الكد و الكدح في بناء الثقافة، لكن هذا لا ينفي وجود مثل ثقافية عليا (الإبداع مثلا)، ذلك أن الذات أو الطبقة المغبونة كلما حققت تطابقا مع تلك المثل كلما حققت رضى نرجيسيا، و بالتالي فالهوية النفسية في الحكي لا تخرج عن دائرة الذاتي و الجمعي في علاتها بالاستثنائي المتفرد، إما بالتحقق أو الخيبة؛ لكن تبقى الذات تسعى للتمزيز و الانفراد
إن التفكر في الهوية النفسية سواء بطابعها المحض أو في ضوء التفاعل بينها و بين المجتمعي الذي يكتنفها وتنبجس فيه يتجسد في الحكي لا السرد، لأن الوعاء الذي بامكانه احتضان ذلك التفكر هو الحكي لكونه إجناسيا عكس السرد فهو غير إجناسي، و أيضا الأخذ بعين المراعاة خاصية البناء التي تشترك فيها الذات مع الحكي، علاوة عن التوتر القائم بين التطلعات و التحققات في الذات و في فعل الحكي، و ما يترتب عن ذلك من أزمة أو رضى، أزمة الحكي وعدم تحقق تطلعات الذات في العالم، أو الاستجابة و الرضى المتمخض عن التحقق.
و لعل تمثل الهوية الحكائية للنفسي تحتاج إلى فهم تشكل الذات المنشطر، بين الخضوع للقالب الجمعي، أو إعلان العصيان في وجهه، و بالتالي فتحديد الهوية رهين بالاستثنائي المفرد للذات عن غيرها في مسألة تحقيق التفرد في تحقيق التطابق مع النموذج الثقافي، و ذلك له ما يبرره خاصة إذا نظرنا إلى الثقافة الإنسانية المبنية أساسا – من جهة أولى – على المعرفة و المقدرة الجمعية على ترويض الطبيعة و السيطرة عليها، و انتزاع الخيرات القمينة بتلبية الحاجات الانسانية، و في ذلك يتبدى التفاعل بين الذات و الأخر ، و كون علاقات البشر المتبادلة تتأثر عميق التأثر بمدى ما تتيحه الثروات الحاضرة مع تلبية الغرائز، و الفرد بالذات يستطيع أن يدخل في علاقة مع فرد أخر، أو يتخذ منه موضوعا جنسيا، أو طرفا معاديا في مسألة توزيع الخيرات المتاحة، فينعكس ذلك على الذات التي تحاول تجاوز الأخر في سبيل إرضاء نفسها، مع إمكانية الخيبة في تحقيق ذلك، و هذا لا يخلو بتاتا من مفهوم الإكراه عن طريق وسائل الردع و القهر الممنهجة من قبل الأقلية على الجموع بعد وضع جمعي للمبادئ و القواعد الثقافية التي يكد فيها الجميع، وذلك بدريعة كون الذات عدوا للحضارة و الذات والقواعد التي حظرته، بحيث أن الإكراه على العمل و نكران الغرائز سيتحول إلى استبطان داخلي ذاتي يسمه طابع العدوانية للثقافة و الأخر، بعد خيبة تحقق نتيجة الكد و الكدح في بناء الثقافة، لكن هذا لا ينفي وجود مثل ثقافية عليا (الإبداع مثلا)، ذلك أن الذات أو الطبقة المغبونة كلما حققت تطابقا مع تلك المثل كلما حققت رضى نرجيسيا، و بالتالي فالهوية النفسية في الحكي لا تخرج عن دائرة الذاتي و الجمعي في علاتها بالاستثنائي المتفرد، إما بالتحقق أو الخيبة؛ لكن تبقى الذات تسعى للتمزيية و الامفراد.
شكرا صديقي محمد على جميل التعليق، ولطيف الإضافة، مودتي