دمشق ـ «القدس العربي»: تسيطر أخبار انتهاكات تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) لشرعة حقوق الإنسان على العالم، بمختلف مستوياتها، وفي الوقت الذي يحاول فيه السياسيون «احتواء» هذا التنظيم من جهة ومحاربة عنفه الوحشي من جهة ثانية، يُندد كُثر بالتدمير الثقافي المُمنهج الذي يقوم به التنظيم في مناطق سيطرته، وليس آخره تدمير معبد «بعل شمسين» في تدمر السورية قبل أيام.
إعلامياً، «داعش» كما تنظيم «القاعدة» الجهادي السلفي، تخالف بمنهجها الإلغائي سياسة سرقة الآثار التي طالما اعتمدتها مختلف الأطراف المتحاربة طوال مئات السنين، وإن كانت على أرض الواقع تمارس بيع الآثار كذلك، إلاّ أنّ التدمير في أحد أوجهه يمنع صاحب الحق من أي إمكانية بإعادة المطالبة بحقه، إن كان فرداً أو دولة أو مؤسسة. في حين تطلّ علينا النجمة البريطانية القديرة هيلين ميرين في فيلم «امرأة بالذهب Woman In Gold» بدور السيدة «ماريا ألتمان» التي تعود بعد عقود للنضال ضدّ الحكومة النمساوية من أجل حقها في ملكيّة لوحة الفنان النمساوي جوستاف كليمت الشهيرة « Woman In Gold» المرسومة عام 1907 وأعمال أخرى صادرها النازيون من منزل عائلة «ألتمان» اليهودية، مع نهبهم لممتلكات أخرى كثيرة أثناء اجتياحهم وحكمهم في النمسا.
هيلين ميرين الممثلة السبعينيّة، الحائزة الأوسكار عن دورها لشخصية الملكة البريطانية «إليزابيث الثانية» عام 2007تظهر امرأة قويّة ، ساخرة حيناً، صارمة حيناً آخر، لكنها تلتقط ذلك الخوف الذي يعرفه الهاربون من الموت، الملاحقون دوماً، يجهل كثيرون كهنه، لكن من يعرفه يوماً لا يستطيع الفكاك منه للأسف بل يبقى ضحيّة له، ضحيّة يسكنها الخوف وتتعلم العيش معه. هكذا فعلت الصبية «ماريا» التي هربت مع زوجها إلى الولايات المتحدة مُخلّفة وراءها والديها ومنزلها وحياتها التي كانت. ليس الزمن الذي قارب نصف القرن هو ما ساعد «ماريا» على امتلاك الشجاعة للعودة إلى النمسا التي خرجت منها بكل ذاك الخوف والالم، ليس وجود المحامي الشاب «راندول شوينبرغ- ريان ينولدز» إلى جانبها، بل وحدها قوّة الإيمان بحقها في الصراع من أجل إعادة ملكيّة لوحات العائلة إلى أصحابها الفعليين، ليس لقيمة اللوحات المالية – على الرغم من أنّ لوحة كليمت تقدّر بملايين الدولارات- بل لأنّ في هذه الاستعادة اعترافا بالحق وبالانتهاك الذي تعرّضت له العائلة، هي ليست سرقة لعمل فني، وليست مجرّد سرقة لجزء من تراث العائلة الثقافي، بل تتضمّن كذلك سرقة للهويّة، فالسيدة بالذهب هي زوجة عمّ «ماريا آلتمان»، سيدة لها اسم «أديل بلوك- باور»، لها حياة ولها تاريخ ومن حقها أن يُعرف هذا. فهي الشخصية الوحيدة التي رسمها «كليمت» مرتين بتكليف من زوجها «فرديناند بلوخ باور»، وقد استغرقه إنجاز «Woman In Gold» ثلاث سنوات وتمثّل قمّة تطوّره الفني. أمّا لوحته الثانية التي حملت اسم السيدة «أديل» فأنجزت عام 1912 وأودعت متحف «بلفيدير» كذلك.
المجرم ليس فرداً.. المجرم نحن
ألمانيا، الدولة الحديثة، لا تقف بعيداً عن مشهدية المصالحة والاعتراف بالحقيقة هذه، إذ احتضن مهرجان «برلين السينمائي» العرض الأول لفيلم المخرج البريطاني «سيمون كورتيس»، فالفيلم ليس مجرّد مطالبة بالاستعادة الكاملة لهويّة الضحيّة، في مختلف مستويات الهويّة، بل هو في الوجه الآخر إدانة للتواطؤ الجمعي الذي تتخذه جماعة ترغب بالنجاة بنفسها، ترغب بتقليل الخسائر، تمتنع عن الفعل أو القول، وبالتالي لا تمنع بهذا وقوع الانتهاك على الضحيّة، بل تقف تراقب وتصمت.
النازيون على العكس من «داعش» لم يدمروا قيم الجمال والفن بشكلٍ كامل، بل احتفوا بالبعض منها، كلوحة «كليمت» المُزيّنة بالذهب، وأعمال أخرى نُهبت من منزل عائلة «ألتمان» وعوائل يهودية أخرى أمست ضحيّة في بلدانها، ضحيّة ليس لشيء سوى لهويتها الدينية. «Woman In Gold» وسواها من المسروقات تموضعت على جدران متحف «بيلفيدير» في فيينا لتتحوّل مع مضي السنين إلى جزء من التراث الثقافي للنمسا والهويّة الوطنية. بعد سنوات ومع تغيّير قوانين التعويض في النمسا تأتي «ماريا ألتمان» الوريثة الشرعية الوحيدة المتبقيّة للمطالبة بحقها، حقها كضحيّة في هذا المستوى لا يسلب الآخر جزءاً من تراثه الثقافي، بل يضرب في صميم هويته الثقافيّة، أجل هذه اللوحة، التي تُعد كما يقول لها مدير المتحف «موناليزا النمسا» هي لوحة مسروقة، فهل يعترف النمساويون بهذا؟ هل هم قادرون على إعادة قراءة هويتهم ليس كونهم جمعا نجى من العنف النازي، بل كونهم مشاركين في كل ما تعرّض له الضحايا، على الأقل بصمتهم وتواطئهم في هذه السرقة لهوية الضحايا.
عشر سنوات من النزاع القضائي ضمن دوائر المحاكم النمساوية والأمريكية تنتهي في النمسا بتصويت ثلاثة خبراء لصالح إعادة الحق لأصحابه، السيناريو الذي كتبه ألكسي كاي كامبل، ينقذ الفيلم بفضل أداء «ميرين» كذلك من الإغراق في تعقيدات المصطلحات القانونية وبرودة قاعات المحاكم، لكنة «ميرين» النمساوية لوحدها كافية لشد انتباه أي متابع لأدوار هذه الممثلة التي أخذت حقها واعترف بها كممثلة من طراز خاص في عمر متقدم جداً لا تتساهل تجاهه الماكينة الهوليوودية.
يبدأ الفيلم مع مشهد تأبين جثمان «لويزا ألتمان» شقيقة «ماريا»، تقول «ماريا»: (لو كنّا في سباق فأنتِ أوّل الواصلين، ولو كنّا في حلبة ملاكمة فأنا آخر الواقفين). ربما من الصعب التعبير عن الصراع من أجل الهويّة، وإنصاف الضحايا، وفضح هذا الإرث الخفي من ممارسة التواطؤ في أي مكان شهد حرباً في العالم، بجملة أكثر دقّة. جملة تعيد قراءة مفهوم الهزيمة والانتصار، فليس المنتصرون وحدهم من يكتبون التاريخ، طالما أنّ للضحايا ذاكرة. «داعش» تدمّر الإرث لأهداف كثيرة، منها عدم الملاحقة لاستعادة أو ترميم ذاكرة الضحايا، ونحن أفراد وجماعات ومؤسسات متواطئون معها بهذا في كلّ مكان من العالم اليوم، فهل سيغفر لنا الضحايا؟ أم أنّنا في مستوى تدمير الإرث الثقافي الجمعي نحن ضحايا مشاركون في تدمير هويتنا هذه؟ أسئلة كثيرة علينا التفكير بها ومواجهتها ليس كأشباح الماضي، بل لكونها مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه الإنسانية التي ستأتي بصورة ما لتحاكمنا ذات يوم.
هيلين ميرين في السبعين إلى الأوسكار مُجدداً؟
ربما من المبكر الحديث حول نتائج حفل توزيع جوائز أكاديمية العلوم السينمائية «الأوسكار» المقبل، إلاّ أنّ أداء هيلين ميرين البارز في هذا الفيلم، كما موضوعة الفيلم يُشجّعان على خوض مغامرة التوقعات. إذ يبدو أنّ ميرين تسير بقوّة لحصد ثاني أوسكار لها مع فيلم هو من النوعيّة المفضلة للماكينة الأمريكية الدعائيّة، ونستذكر على سبيل المثال لا الحصر أفلام «القارئ- The Reader» وأوسكار الممثلة البريطانية «كيت وينسلت» عام 2009، أو فيلم «عازف البيانو- The Pianist» وأوسكار الممثل «2002» عام. فهل ستفوّت هذه الماكينة فرصتها الجديدة، خاصة أنّ الورقة الرابحة بيد ميرين هي سني عمرها التي ستدعم في حال فوزها محاولة مسوّقي الحلم الهوليوودي دحض ما يُقال عن عزوف الإنتاج الهوليوودي عن الاستعانة بالممثلاث وإن كُنّ قديرات بعد عمر مُعيّن.
يارا بدر