حيث تزدهر الفنون، تزدهر الحالة المدنية وتنعكس على وجه المجتمع إضاءات التنوع والتعددية والانفتاح.
والمسرح وكل ما يتعلق بفنون التمثيل جزء مهم في هذا السياق، وعربيا كانت الكويت (بخلاف باقي دول الخليج) حالة متقدمة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، طبعا بحكم وجود الطفرة النفطية وطبيعة أهل البلاد.
خرجت من دائرة طباشير «البداوة» وتغلبت على جغرافيا الصحراء القاسية واقتصاديات الموارد البحرية الصعبة لتنطلق إلى آفاق أوسع من جغرافيتها على مستوى العالم العربي كله، خصوصا منذ نهاية خمسينات القرن الماضي، وتقبل المجتمع الكويتي المحافظ بطبعه الانفتاح وخلق بنفسه بيئة خصبة لحالة فنية مسرحية ومن بعد تلفزيونية استطاعت بجهود كويتية آنذاك أن تنتشر عربيا وبسهولة ورحابة.
بإشراف مصري تمثل في وجود المسرحي زكي طليمات لتأسيس المسرح الكويتي، انطلقت الحالة الفريدة بعروض رفيعة المستوى سرعان ما وجد المسرح الكويتي نفسه يعمل عبر كتاب نصوص محليين على تعريبها وصياغتها في معالجة محلية تجذب جمهورا يتعلم بسرعة ويندمج مع الحالة الفنية كمتلق بسرعة أكبر.
كانت الأسماء رجالا ونساء تزدهر في سماء الفن الكويتي والخليجي والعربي تباعا، من علي المفيدي وإبراهيم الصلال وعبدالعزيز النمش وحياة الفهد وسعاد عبدالله وعبدالحسين عبدالرضا وغيرهم كثير.
نجم التلفزيون
كانت التجربة المسرحية مهمة لصقل أدوات التمثيل والتعبير الأدائي لممثلي وممثلات الكويت الناشئين وقتها في الخمسينيات، وهذا الصقل المعرفي شكل خبرة مهمة لهؤلاء ليدخلوا عالم الدراما التلفزيونية فيما بعد في السبعينات، بخطى واثقة ورائدة أيضا على مستوى الخليج، وكانت الكوميديا رغم ما تشكله من صعوبة في المعالجة أقصر الطرق لقلوب المشاهدين، وكان عبدالحسين عبد الرضا، الشاب الذي درس علم الطباعة على نفقة حكومة الكويت في ألمانيا، قد بدأ باكتشاف نفسه ومواهبه، على المسرح الكويتي الجاد أولا، ثم في التلفزيون الذي انطلق انطلاقته الصاروخية فيه، عبر مسلسل «درب الزلق»، لتصبح شخصية العبثي المشاكس والذكي حسين بن عاقول لصيقة به لسنوات طويلة، ووضع المسلسل الذي ضم نخبة نجوم الكويت الدراما الكويتية على خريطة الدراما العربية الناجحة.
نجاح المسلسل، وأداء نجومه وعلى رأسهم عبدالحسين عبدالرضا، كان منصة لانطلاق أعمال تلفزيونية ناجحة بمجملها لعبدالرضا، وعودته للمسرح هذه المرة لكن على طريقته الخاصة، وبمعالجات محلية (كويتية وخليجية) فتربع الفنان، الذي ترك عالم المطابع، على عرش النجومية الكويتية والخليجية طوال عمره، ولكن ميزة عبدالحسين عبدالرضا لم تكن مقتصرة على كونه ممثلا محترفا متخصصا في الكوميديا بدون تهريج ولا إسفاف، بل كان متعدد المواهب، فهو يكتب الأغنيات، ويضع أفكار ألحانها أحيانا، ويغنيها بأداء استعراضي خفيف الدم، من هنا تخصص في انطلاقته المبكرة وبإبداع في فن الأوبريت، وهو فن صعب من حيث تجميع الأداء التمثيلي والقصة الجيدة واللحن والغناء في ساعة تلفزيونية واحدة، وقد نجح رهان عبدالرضا على نفسه، فكانت سلسلة أوبريتات مثلها غالبا مع شريكته في الأعمال الأولى سعاد عبدالله، لقيت نجاحا تجاوز الكويت إلى العالم العربي كله تقريبا.
هذا التفوق، توجه عبدالحسين عبدالرضا، برائعته المسرحية، «باي باي لندن»، وهي المسرحية التي كان توقيت ولادتها وعرضها في زمن كان دريد لحام فيه، قد شق طريق مسرح «الكباريه السياسي»، وفي زمن كان الترميز في انتقاد الحكومات فيه حالة إبداع.
كانت مسرحية «باي باي لندن» قمة تفوق الأداء المسرحي على المستوى العربي للفن الكويتي، ولعبد الرضا شخصيا، وكانت أيضا أوراق اعتماده الرسمية الحقيقية كسفير للكوميديا العربية المحترمة وترسيمه نجما عربيا له تقديره ومكانته من المحيط إلى الخليج، فصارت مسرحياته (وأعماله في المجمل) بعدها تجد طريقها بسهولة حتى لو كانت ذات طرح محلي، مثل مسرحية «فرسان المناخ»، التي انتقد فيها بشدة طفرة البورصات ولعبة سوق الأسهم في الكويت، وشرحت الحالة في كوميديا راقية للعالم العربي.
طور الفنان الراحل الكبير أدواته للوصول إلى المشاهد العربي فأسس أول قناة عربية فضائية متخصصة في الأعمال الكوميدية، وهي قناة فنون، التي وجدت مساحة كبيرة لدى الجمهور وقدمت ولا تزال مجمل الأعمال الكوميدية المحترمة، وضمن ذائقة مساحتها ذائقة عبدالحسين عبدالرضا نفسه، وهي ذائقة الخبير المعتق، التي تحترم جمهورها إلى أقصى حد.
تقصير الفضائيات بحق عبدالرضا
هذا غيض من فيض تاريخ الفن الكويتي، وقد حلق به عبدالرضا إلى آفاق بعيدة وواسعة، لننتهي إلى صدمتنا بوفاته – والموت حق – لكن الصدمة كانت نابعة من تقدير ومحبة لهذا الفنان الكبير.
وها نحن ننتهي إلى تشظ عربي تفتت في الوعي حد العبث والضحالة، فيختلف ضحايا عبث الواقع العربي المعاصر والمنحط على طلب الرحمة للفنان الكبير الراحل عن عالمنا بكل وقار الكبار، ويتجادل متوهمو وكالة الله عز وجل شأنه على الأرض، في قضايا لم تكن تخطر في بال أحد في زمن عربي سابق وجميل.
ومن المؤسف أن قنوات عربية قليلة غطت رحيل الفنان الكبير أو أفردت له مساحة تليق بتاريخه الطويل، ولم تتردد قنوات فضائية باستمرار احتفالها بمهرجي زمن الديجيتال، وتقديم الغث في لحظة غياب الكبير وهذا يعكس منطق الإعلام في زماننا.
وكم كانت موجعة متابعة تلك التغطية على القنوات الكويتية والتي تحدث فيها مثقفو وفنانو العالم العربي عن الراحل بحرقة وأسى، وكم كان لافتا أيضا حذر الإعلام الكويتي في الإحاطة بالبعد العربي، الذي حلق في فضائه الراحل بأجنحة كبيرة، وهي على ما أعتقد سياسة كويتية عامة بالانعزال عن المحيط العربي منذ الغزو العراقي البائس لتلك الدولة التي كانت وبحق إحدى منارات العالم العربي في زمن عربي محترم.
رحم الله عبدالحسين عبدالرضا، فهو الآن بين يدي رحمن رحيم، وسعت رحمته كل شيء، و «كل شيء» مطلقة لا يقيدها فكر مظلم، ولا تحددها عتمة في العقل والوجدان.
إعلامي أردني يقيم في بروكسل
مالك العثامنة
شكرًا لك أستاذي ورحم الله عبد الحسين عبد الرضا