هذه العبارة مأخوذة من كتاب «الهويات القاتلة» المنشور في نسخته الفرنسية في العام 1998 لصاحبه اللبناني الفرانكفوني أمين معلوف.
ذلك الكتاب لم يحظ، في اعتقادي باهتمام مناسب رغم ترجمته للعربية ورغم أن كاتبه يعد من أشهر كتاب لبنان وفرنسا على حد سواء وهو مصدر فخر لكلتا الثقافتين.
أما «بروتوكول التسامح» فقد قصد به الكاتب تلك الأخلاقيات التي وضعها الإسلام لتحكم علاقته بالآخر غير المسلم..
تلك الأخلاق الرفيعة التي عززت من شأن الكرامة الإنسانية كانت غريبة بلا شك في ذلك العصر الذي كان فيه انتهاك حقوق الأضــــعف من الأساســــيات التي لا ترى فيها المجتمعات غضاضة خاصة بعد المعارك الحاسمة حيث يحتفل المنتصر بتحقيق أكبر قدر من الجرائم ابتداءاً من التعذيب أو الرق ونهاية بالسبي أو الاغتصاب هذا طبعاً غير الممارسات الضرورية كتغيير المعتقدات والأديان بالقوة.
يمكن تتبع جذور ذلك «البروتوكول» في تاريخ الإسلام القديم حين استولى المسلمون لأول مرة على المدينة التي كانت، وستظل، الأهم لهم، مكة، فدخلوها بتواضع وأحنى النبي صلى الله عليه وسلم رأسه حتى كاد شعر لحيته أن يمس واسطة الرحل، كما جاء في السيرة، وفي تلك اللحظة الحاسمة المليئة بالترقب والخوف والمصير المجهول أعلن النبي الكريم أنه سيفعل بهم ما فعل يوسف مع أخوته الذين رموه في البئر وسيقول لهم ما قاله: «لا تثريب عليكم اليوم.. إذهبوا فأنتم الطلقاء».
كفار قريش الذين طالما عذبوا وقتلوا وانتهكوا الحرمات واستولوا على أموال المسلمين كان جزاؤهم الصفح والتسامح فلا انتقام في الإسلام ولا قهر أو تعذيب للمخالفين ولا حتى إجبار على تغيير المعتقد أو الديانة حيث «لا إكراه في الدين».
على هذا البروتوكول سارت الأجيال الأولى من قادة الإسلام وبهذه المعاملات رغب الآلاف في الدخول في الإسلام طواعية في حين بقي الآخرون معززين مكرمين ومحتفظين بدياناتهم القديمة.
لقد احتاجت أوروبا على سبيل المثال لأكثر من ألف سنة بعد التجربة الإسلامية حتى تبدأ التفكير بجدية في مسائل التعايش وحريات الاعتقاد.
يقول معلوف، المنتمي لأسرة مسيحية، مدللاً على صحة ما ذهب إليه بشأن التسامح الإسلامي مع غير المسلمين:
«لو كان أجدادي مسلمين في بلد فتحته الجيوش المسيحية بدلاً من كونهم مسيحيين في بلد فتحته الجيوش المسلمة، لا أظن أنهم كانوا استطاعوا الاستمرار في العيش لمدة أربعة عشر قرناً في مدنهم وقراهم محتفظين بعقيدتهم..»
ويضرب مثلاً على ذلك باندثار مسلمي أسبانيا وصقلية الذين إما تم تهجيرهم أو قتلهم أو تنصيرهم بالقوة في حين لم يحدث ذلك لأي أقلية غير مسلمة في أي جزء من العالم الإسلامي.
ثم يذكر حقيقة أن اسطنبول، احدى أهم المدن العثمانية، كانت حتى أواخر القرن التاسع عشر مدينة إسلامية بغالبية من غير المسلمين.. لقد كان ذلك يعبر بلا شك عن درجة عالية من قيم التسامح لا يمكن أن نجدها حتى في عواصم أوروبا المتمدنة في قرننا الحالي الذي يفزع فيه الأوروبيون من مجرد ذكر الاحصاءات التي تؤكد تنامي أعداد المسلمين أو تزايد نسبتهم لتصل إلى عشر أو عشرين في المائة.
أمين معلوف الذي حدثنا عن ذلك التاريخ المتسامح كان أيضاً، ولسوء الحظ، من المعاصرين لأحداث التسعينيات في الجزائر التي قدمت وجهاً آخر للإسلام، كما كان من المعاصرين لحرب لبنان التي يقول أنها كادت أن تحوله إلى مجرم وقاتل كما حولت الكثيرين ممن تحولوا بين يوم وليلة إلى متعصبين عنصريين دمويين كرد فعل على ممارسات الآخرين عليهم ولمناخ العنف والانتقام الذي ساد.
هذه الظاهرة.. أي ظاهرة انحسار التسامح.. كانت تحتاج بحسب صاحب «الهويات القاتلة» لمزيد من الوقفات والتحليل ونذكّر هنا بأننا نتحدث عن الفترة ما قبل الحادي عشر من سبتمبر وما قبل الاستباحة الأمريكية للعراق وأفغانستان.
في الواقع فإن ما توقف عنده الكاتب كان تلك الفوضى الجزائرية وذلك الإرهاب المنتسب زوراً وبهتاناً للإسلام..
يقول معلوف أن الإسلام وتاريخه لا يفسران ما حدث في الجزائر بقدر ما تفسر ذلك دراسة التاريخ الحديث.. الاستعمار ومابعده:
«تستطيعون قراءة عشر مجلدات ضخمة عن تاريخ الإسلام منذ البدايات ولن تفهموا شيئاً مما يجري في الجزائر.. إقرأوا عشر صفحات عن الاستعمار والتحرر فتفهمون ما يجري بصورة أفضل..»
إنك لن تجد تفسيراً إسلامياً لأي عمل إرهابي من قبيل ما روّجت له القاعدة أو ما تقوم به حالياً من تسمي نفسها بـ»الدولة الإسلامية» (آخرها الاعتداء على متحف مهم في تونس وقتل سياح)، بل يكمن تفسير كل ذلك بعوامل الجغرافيا والاجتماع وسياسات الضغط الاقتصادي والكبت الذي تمارسه أنظمة الديكتاتور في الداخل وتدخلات الدول الأعظم من الخارج.
بهذا يكون الهوس بمحاربة الرموز الإسلامية في اللباس والثقافــــة مبرّراً في ســــياق التنافس المجتمــــعي غير المتسامح الذي يحاول فرض تصــــور وحيــــد لأســلوب الحــــياة، لكنه لا يمكن أن يكون مبرراً كدافع لمحاصرة التطرف أو محاربة الإرهاب.
إن كل من عاشر المسلمين وعرف حقيقة الإسلام أو أتيح له قدر من الثقافة والإلمام بتاريخ الحضارة الإسلامية يعلم أن سر عظمتها كان انفتاحها على الآخر وتقبلها لأصحاب الديانات والخلفيات المختلفة.. ذلك هو الذي يجعل عقلاء الغرب، وهم الغالبية حتى الآن، غير منساقين وراء خطابات العنف والكراهية التي يحاول تسويقها مهووسون بكراهيتم للعرب والمسلمين.
لحسن الحظ فإنه توجد شهادات كثيرة عن حقيقة الإسلام مثل شهادة أمين معلوف وهي شهادات مهمة في هذا الزمن الذي نحتاج فيه أكثر ما نحتاج لمزيد من الثقة في أنفسنا وحضارتنا..
زمن يحتاج فيه العالم، وخاصة ذلك الجزء المبتلى أكثر من غيره بحرب الهويات وبالتمترس حول القبلية والطائفية، يحتاج فيه أكثر من أي وقت مضى لاستعادة ذلك البروتوكول القديم..
بروتوكول التسامح.
٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
لم أجد شرح تفصيلي ونموذجي منذ عشرون عاماً كالذي قرأت. تم سرد المقال بحيادية ونزاهة. تؤكد إبداع ومهنية كاتب المقال.. وفقك الله لما يحب ويرضى… كن بخير صديقي