«بلا رحمة» رواية الهولندية ناتاسزا تارديو: تنميط الشرق خلف تجنيد الشباب الأوروبي مع داعش

 

صارت سوريا شأناً عاماً «هولندياً» تُخصَّص لها البرامج التلفزيونية، والكتب والندوات والميزانيات. ليس وجود نحو أربعين ألف سوري لاجئ في هولندا وحده من لفت الانتباه إليها، بل كذلك رغبة الثقافة المستقرة في تنميط الثقافة الوافدة، ومحاولة حشرها في زوايا معينة للآخر، كي يسهل التواصل معه. لكن هذا التأطير تميّز بالتشظي والتعدد، إذ لا هوية محددة لصورة هذا البلد المحيّر للشعب الهولندي. من هنا فإننا نجد في كتاب التاريخ، المقرر هذا العام على طلاب المرحلة المتوسطة في المدارس الهولندية، حديثاً مستفيضاً عن سوريا وتاريخها العريق، ودورها الحضاري، كُتِب بروح علمية راقية.
وفي الوقت نفسه، تصدر هذه الرواية ذات النفَس المغامراتي المعنونة بـ «بلا رحمة» لتتحدث عن سوريا المعاصرة، بصفتها عامل جذب إرهابي عالمي، ورمزاً رئيساً من رموز التطرف والإلغاء، باتت تتجه إليه أنظار كثيرين، لتحقيق «مغامرة» ما، إذ ينجذب إليها شباب متحمسون، وقد أدهشهم عالم المغامرة مع داعش ودعاواها، خاصة أن مصطلح «مغامرة» باللغة الهولندية، هو من أهم المصطلحات التي تطلقها شركات السياحة لإغراء زبائنها بالحجز في رحلاتها السياحية حول العالم، نظراً لرتابة الحياة اليومية، التي يريد أن يخرج من عاديّتها الهولنديون، بالقيام بمغامرة يعودون بعدها إلى حياتهم النمطية. غير أن المغامرة مع داعش كما تكشف الرواية، ليست مغامرة سياحية، مدهشة، وهذا ما حدث مع الفتاة الهولندية من أصل سوري إسراء، فالتبدل في الهوية الفكرية الذي تحدثه مغامرة داعش لا يتعلق برحلة عابرة، بل يرافقه غسيل دماغ، يجعل الشخصية أسيرة له، حتى لو عادت إلى بلدها الأصلي بعد تجربة مغامرة داعش، لتبدأ هويتها الجديدة بتوجيه بثها نحو فضاء آخر، تبحث فيه عن بيئة حاضنة تؤكد عمق مغامرتها وأصالة هويتها وصحة خيارها.

سلسلة مغامرات

ليست الكاتبة الهولندية ناتاسزا تارديو، بجديدة على عالم الكتابة المغامراتية، فقد حصل كتابها الذي صدر عام 2014 على جائزة الكتاب الذهبي للكتابة للفتيان في هولندا، ولعله من الطبيعي ألا تفوّت على نفسها فرصة وجود حدث سياسي عالمي ساخن، وفوبيا عالمية من داعش لصياغة نص أدبي ممتلئ بروح المغامرة إلى قارئ يدهشه هذا العالم، ويدفعه للتعرف إلى مكونات الشخصية «الداعشية» وكيفية تشكلها.
اشتغلت تارديو على عدد من الثيمات التي باتت تشكل نقاط علام في الثقافة العالمية، فداعش تجند الفتيان والفتيات، وتستهدف بشكل خاص مزدوجي الهوية، من جذور إسلامية أو مشرقية، وهم الذين يعيشون تشتتاً مضاعفاً، فليست لديهم القدرة على الانخراط في المجتمعات الجديدة التي تُفقِدهم خصوصيتهم، التي يتوهمون وجودها، وفي الوقت نفسه ليست لديهم القدرة على الانفصال عنها. وأمام هذا الضياع، ربما يكون اللجوء إلى الحلول المغامراتية جزءاً من حل يبحث عنه المراهق والكبير لواقعه المر، فالخطاب الذي يحدّد له الكثير من أجزاء هويته يمنعه من الانصهار في المجتمع، ويترافق هذا مع شعور بالظلم، لا يلجأ للتعبير عنه إلى مؤسسات مدنية لإزالته، بل إلى نصوص دينية تتحكم في رؤيته.
تدور أحداث الرواية عبر 22 فصلاً، خلال فترة زمانية نحو ثمانية أشهر، حيث يوضع عنوان لكل فصل من فصولها، وفقاً للشخصية التي تقوم بروايته، مع زمان «اختيار يوم محدد». غير أن هذا الزمان التسلسلي شابه الكثير من الحذف والتكثيف لتركز الشخصيات على الزمان الذي يكون مركز إصدار للتحول، أو بلغة النقد السردي الزمان الفاعل.
فيوم هروب إسراء لا ترويه الشخصية الهاربة/ أو المختطفة، بل ترصد الكاتبة ردود أفعال أصدقائها وصدمتهم وبحثهم عنها، وهي فرصة ـ روائياً ـ للعودة بالزمن إلى الماضي ليتعرف المتلقي إلى تفاصيل هذه الشخصية، وعلاقاتها المشكلة للكثير من ملامح شخصيتها الحالية، حيث سبق أن هربت أسرتها من استبداد الأسد «القديم» كما تسميه الرواية في تسعينيات القرن الماضي، فيتواشج الزماني مع المكاني وأسماء الشخصيات، مما يقدم الأحداث من وجهات نظر متعددة، ويتيح عرض غير وجهة نظر. ولم يكن هذا التنوع في تعدد الشخصيات والرواة تعدداً شكلياً، كما يحدث في نصوص كثيرة، بل وجد المتلقي تنوعاً في وجهات النظر في عرض تفاصيل الأحداث، مما ولد المزيد من التشويق والحيرة في التأويل.
إسلام متسامح ومسلمون متشدّدون
من الملفت أن الرؤية التي يتم تسريبها في مواض عدة في الرواية تتمثل في كون الإسلام ديناً يقبل الآخر، وأن المشكلة تكمن في تفسيرات من أشخاص يدّعون امتلاكهم للحقيقة، عبر عقل نكوصي يحسب أن دوغمائيته تضمن له قراءة سليمة للنص، لكن في الوقت نفسه ليس من الضرورة أن تقود المقدمات إلى النتائج نفسها في كل البيئات. فـ إسراء مثلاً تعيش في عائلة لا يشكل الدين «من حيث العبادات» موقعاً رئيسياً في حياتها، لكن وجود ظروف ملائمة لتغير مسار الشخصية أدى إلى سرعة في تحولها إلى بيئة متطرفة، حيث تغيب إسراء ذات الخمسة عشر عاماً عن مدرستها، ويعتقد أهلها وأصدقاؤها أنها خطفت ولم تذهب بإرادتها، إذ تُرافق صديقها محمد، الذي يكبرها بسبع سنوات إلى ألمانيا حيث يقيم أياماً عند ابن أخيه، حتى يتجه بالطائرة من مطار دوسلدورف إلى مطار هاتاي في تركيا، لتحط بهم الرحال في مدينة الباب بالقرب من حلب بعد رحلة تهريب معروفة للراغبين بالالتحاق بداعش.
بعد تلقي الصدمة الأولى، يطلب عدد من أصدقاء إسراءمن الصحفي المتخصص في الجريمة (سيمون فان دير بول) مساعدتهم في إعادة صديقتهم إليهم، لأن إجراءات الشرطة طويلة وغالباً ما تكون غير مجدية، حيث سبق أن طلبوا من أحد الضباط مساعدتهم لكنهم وجدوا موقفه متشككاً، ولم يشاطرهم الرأي حول كون إسراء قد اضطرت للسفر، وكاد أن يقضي على فكرتهم المغامراتية في كونها لم تتعرض للخطف. وقد توقف عند التغيرات التي أصابت إسراء في الفترة الأخيرة، حيث إنها لبست الحجاب، الذي رآه أصدقاؤها في إطار تعدد الخيارات. غير أن الصحفي أخذته رغبته بالاكتشاف وحسه الصحفي لخوض مغامرة الذهاب إلى مناطق داعش لإنقاذ إسراءمعتمداً على علاقات له هناك على الأرض مع عدد من الناشطين.

صورة داعش وصورتنا

يشتغل هذا النص على سياق بات يتحكم في تشكيل صورة محددة لسوريا «الجهادية»، وفقاً للنقد الثقافي، ومن الصعب تحطيم ذلك النص الذي يتكون، إذ صار له مرجعيته التي تشكلها وسائل التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار وما يراه الآخر من أفعال ذلك القادم الجديد، ومن الملاحظ أن الانشغال يكون في الحدث وليس في الاستراتيجية، إذ لا أحد يحاول تحليل الظاهرة وأسباب نشوئها، أو آثار الإجرام الأخرى، بل ثمة انتباه وتركيز على الخطر الذي يمسّ المجتمعات الأوربية، أما الخطر الذي قتل عشرات الآلاف، المتمثل في نظام الطاغية، فيمرّ مروراً عابراً في تفاصيل الرواية.
تستحضر الكاتبة صورة الصحفي الأمريكي جيمس فولي الذي تم إعدامه من قبل داعش لتعطي نصها المزيد من الأحداث الواقعية، فهو ليس نصاً ملحمياً، شخصياته ذات طبيعة مركبة، ومقولاته تحفر عميقاً في النفس الإنسانية، ولغته فياضة بالدلالات، بل هو نص يلاحق الحدث، ويقدم المغامرة ويستهدف محبّيها. وفي الوقت نفسه يقدم بعض أسرار تلك «الخلطة الفنية» من وقائع، وخلافات بين الشخصيات، ووجوه الأسود والأبيض، التي تتكسر فصلاً أثر فصل، وثمة تفاصيل عن قصص الجهاديين وخلافاتهم ومفاهيمهم وعلاقاتهم، وكونها ممتلئة بالمدنس، فاقدة للمقدس الذي تحاول أن تنطلق منه.
تدهش الكاتبة متلقيها في نهاية الرواية عبر كسر أفق توقعه، فبعد أن سارت الكثير من أحداثها في مسار التعاطف مع إسراءبصفتها فتاة مخطوفة، وضحى الصحفي بحياته لأجلها نكتشف أن إسراء كانت جزءاً من شبكة جهادية تكمن مهمتها في تجنيد المتطوعين من أوربا. ويتكشف هذا بعد عودتها إلى هولندا، حيث تبدأ ممارسة تفاصيل حياتها مترافقة مع معالجة نفسية، غير أنها تعمل سراً في التجنيد، حيث تعود لتلتحق بهم هناك. تتبدى منها وجوه إجرامية، تولد حالة شعورية مختلفة من المتلقي، الذي سبق أن تعاطف معها، بعد أن تعرضت للضرب من قبل حبيبها محمد في بداية رحلتها الأولى، حيث شاركها المتلقي شعور التعاطف حين كانت تتذكر شقيقيها الصغيرين في بيت أهلها لهولندا، اللذين تحكي لهما كل يوم حكاية، ينامان على تفاصيل أحداثها.
أخيراً، يمكن الإشارة إلى أن الناشر اختار غلافاً يظهر فيه وجه فتاة محجبة وجهاً لوجه أمام وجه شاب (ربما وجه الحبيبين إسراء ومحمد)، وفي خلفية اللوحة حمام يطير أمام جامع كبير. إنها معطيات اللوحة المشرقية/ الصورة النمطية للآخر، الملائمة لتسويق الكتاب.

NataszaTardio: Meedogenloos.
Kluitman, Alkmaar, 2015.
190 p.

أحمد جاسم الحسين

اشترك في قائمتنا البريدية