في الأوّل من شباط/فبراير من هذه السنة، وشباط في العاميَّة اللبنانية موصوف بـ«اللبّاط» نظرًا لما يحتدّه الشتاء خلاله، وما يُرافِق ذلك من غزارةِ مطر ومن قصف رعد وما شابه، انطلقت في حمانا، من قرى جبل لبنان، ورشةُ بناء لا يُميزها، للوهلة الأولى، شيء عن مثيلاتها من الورش المنتشرة في أرجاء لبنان التي تأكل، بشراهة غوليَّة، أخضر هذا البلد الصغير ويابسه. بسرعةٍ لا مذمة في وصفها بـ «الحريريّة»، نسبة إلى رئيس الوزراء اللبناني السابق، رسول «إعادة إعمار بيروت»، رفيق الحريري، أنجزت الورشة على المطالع من آب/أغسطس، وانجلى المشهد عن مجمّع قلَّ نظيره في مدن لبنان وقراه: «بيت الفنّان».
صحيح أن «بيت الفنان» ليس التسمية الأجمل والأظرف والأبدع لهذا المجمّع، بل قد يُؤخذ عليها أنها لا تعدو أن تكون ترجمة حرفية لمفهوم اشْتَقَّ نفسه في لغات بلاد المنشأ بالإحالة إلى بيوت أخرى، ولكن يشفع لهذا الاسم مُسمّاه وسيرة هذا المسمى.
بعد عقود من العمل، بنجاح، خارج لبنان، في القطاع المصرفي، غلب الحنين على اللبناني روبير عيد وارتأى أنّ الساعة قد دقت لكي يفي والدته، وقريتها التي كانت مسرح طفولته، بعض حقهما عليه، فابتاع في هذه القرية، «حمّانا» في جبل لبنان، عددًا من العقارات المتجاورة. في عام 2015 حوّل أحد هذه العقارات إلى حديقة عامّة تحمل اسم جده لوالدته الشيخ فهد فرحات، الذي كانت له مواقف مشهودة في مواجهة أحمد جمال باشا قائد الجيش العثمانيّ الرابع وحاكم سوريا وبلاد الشام خلال الحرب العالمية الأولى. غير بعيد عن هذا العقار الذي تحوّل بين ليلة وضحاها إلى حديقة عامة، وجد عقارا آخر يقوم عليه بيت من الطراز القديم، أكل عليه الدهر وشرب. احتار عيد، على ما يروي، في أمر هذا البيت: هل يحوّله إلى دار للمسنين والمسنات؟ أم إلى مدرسة مهنية أم إلى مستوصف طبي؟ بيد أن حيرته لم تدم طويلاً، فيوم أن فاتح معارفه في حيرته استوقفه ما نصحت به دبلوماسية فرنسية تعرف لبنان عن ظهر قلب، من أن الأفكار التي تخطر له لا تخلو أن تجد من يسخى عليها، لوجه الله أو لوجه الوجاهة، في حين أنّ المشاريع الثقافيّة المستدامة قلما تلقى، بين المقتدرين اللبنانيين، من يتعهّدها بالرعاية المعنويّة والماديّة. وإذ زادت الدبلوماسيّة إيّاها بأنَّ المقتدرين اللبنانيين، متى ما زكّوا ثرواتهم بالإنفاق على مشاريع ثقافية، يُؤثرون الإنفاق على مشاريع بيروتيّة لا على مشاريع مناطقية وطرفيّة، وقعت النصيحةُ الدبلوماسيةُ في أذن روبير عيد موقع القبول. ثم كان أن سعى سعاة الخير بين عيد وبين ثنائي لبناني ناشط في المجال الفني باسم «مجموعة كهربا» (أورليان الزوقي وإيريك دونيو)، وإن سرت الكهرباء بين الطرفين، وانعقدت الكيمياء، وإن بوشر العمل على تحويل البيت المحاذي لحديقة الشيخ فهد فرحات، والباحث عن وظيفة اجتماعيّة، تكون السبب الموجب لترميمه بيتًا للفنان.
في تموز/يوليو من عام 2016 كان الإعلان رسميًّا، في إطار ليلة فنية عامرة، عن الشروع بإنشاء هذا المجمع. وليس من عبث، في الحقيقة، ما نتأرجحه في تسمية المكان بين «البيت» و«المجمّع». فالمكان، في الأصل، بيت من طابق واحد، أمَّا «بيت الفنان»، على ما يمثّل عليه اليوم، فيتألّف من البيت الأصلي وقد رُمِّمَ وأضيف إليه طابق ثانٍ مكلل بالقرميد التقليدي، ومن منشأتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ هما محترف للأعمال الفنية، ومسرح، كامل الأوصاف، يتسع لنحو 400 مشاهد. بهذا المعنى فـ«بيت الفنان» ليس مجرد مضافة للفنانين ـ الفنانات بل مجمّع فنيّ مرشح، إن نجح القائمون عليه، وإن توفر له تمويل مستدام، أن يتحوّل إلى ورشة فنيّة متواصلة تفيض على ما حولها. وأين؟ في حمانا… بالطبع، لم تنتظر حمانا أن تصطفّ الصدف اصطفاف الكواكب فينشأ «بيت الفنان» لتزهو بنفسها. فككلّ قرية من قرى لبنان، لاسيما جبله، لحمانا التي تبعد عن بيروت نحو 30 كيلومترًا ما تعتز به من هبات الطبيعة والتاريخ. فإن يلقى باسم حمّانا على مسمع من أيّما أحد على شيء من الدراية بمناطق لبنان وما تشتهر به كلّ واحدة منها، لا شك يأتيه رجع ما ألقى: الشاغور ــ أي شلال حمانا، أو قد يأتيه رجع ما ألقى ألفونس دو لامارتين الشاعر والرحّالة الفرنسي الذي نزل ضيفًا، خلال رحلته إلى الشرق على المقدمين من آل مزهر، وفي دارتهم المنيفة القائمة إلى يومنا هذا، والمرحبة بالزائرين، لفظت ابنته جوليا، التي رثاها بإحدى عيون قصائده، أنفاسها الأخيرة. وإن كان المُلقى على سمعه باسم حمّانا أوسع إحاطة بتاريخ لبنان، فلعلّه أن يذكر أنها، كسواها من قرى هذا الجبل، زرعت التوت وربّت ديدان الحرير، وأنها من أوائل قرى جبل لبنان التي نشأ فيها ما يشبه أن يكون مجلسًا بلديًّا، وأنها أهدت لبنانًا عددًا من أعلامه لعل أشْهرهم ذكرا الدكتور جورج حاتم، أحد أطباء الزعيم الصيني ماو تسي تونغ الشخصيين فضلاً عن إنجازاته الطبية، ونجيب أبو حيدر وزير التربية مطلع السَّبعينيات وسواهما من الأعلام.
***
مساء السبت 12 أغسطس افتُتِحَ «بيت الفنان» رسميًّا فَخُطِبَتِ الخُطَبُ وقُدِّمَت عروضٌ راقصة أريد منها إبراز أهلية المكان لاستقبال هذا القبيل من النشاطات ومُدَّت السُّفَر ورُفعت الأنخاب وأضيفت إلى مآثر حمّانا مأثرة جديدة وأضيف إلى الأسباب الموجبة لزيارتها، في أدلة السفر، سبب آخر.
ثم ماذا؟ خلال الأسابيع المقبلة سوف يُأتى مجددًا على ذكر بيت الفنان بمناسبة ما برمج له ولحمّانا أن يستضيفاه من نشاطات («السيرك الأحمر» المصري، سهرة أسمهانية تحييها المطربة دالين جبور، إلخ…)، غير أنَّ نجاح بيت الفنان لن يقاس بنجاح هذه النشاطات الموضعيّة في استقطاب جمهور عليه أولاً، وقبل أي شيء آخر، أن يكتشف أين تقع حمانا على الخريطة اللبنانية. فـ«بيت الفنان» ليس مكانًا فقط، بل مشروعا يعرّف عن نفسه، بكلمات القائمين عليه، بأنه إنما «تأسس ليكون فضاءً ثقافياً، ومركزاً للإقامات الفنية في مختلف المجالات، مع التركيز على فنون العرض بشكل خاص» وبأنه «أولاً مساحة للتطوير الفني، ومساحة للابتكار والتواصل» وأن غايته من استضافة من سوف يستضيفهم من الفنّانين المحليين والدوليين «تعميق بحوثهم الفنية، واللقاء مع جمهور متنوع، وتوسيع شبكاتهم المهنية وتعزيز ارتباطهم المجتمعي». بكلام آخر، وفي معزل من أيّ مبالغة، يكلف «بيت الفنان» نفسه، بشخص «مجموعة كهربا» الموكلة الإشراف عليه، مهمة ثقيلة جليلة. تعرّف كهربا عن نفسها، على ما يرد على موقعها الإلكتروني، بأنها «مجموعة من الفنانين ومن التقنيين، ذوي خلفيات شتى، منطلقها أن الفن هو الطريق المفضي إلى الانفتاح والحوار وتركيزها على الفنون الاستعراضيّة». لسنوات خلت تعرّف اللبنانيون على كهربا من خلال عدد من النشاطات الاستعراضيّة التي تأرجحت بين «عروض الشارع» والعمل المسرحي (مسرحية «مساحات دموعنا»، 2016). وإذ نقول «تَعَرَّفَ اللبنانيون»، فليس من باب الإرسال والاستسهال بل لأنَّ «كهربا»، من أوَّل العهد بها، نهجت طريق «اللامركزية الفنية» فلم تحصر نشاطاتها في بيروت، ولا حصرت هذه النشاطات بنوع استعراضيٍ يخاطب جمهورًا مغلقًا، بل تعمّدت الإطلال من مناطق لبنانية شتى، على متن عروض شتى. على أنه ليس عفوًا أن «كهربا» تختزل لدى كثيرين بالنشاط الذي تنظمه منذ سنوات تحت عنوان «نحنا والقمر والجيران» في منطقة مار مخايل ــ أحد عناوين الحياة الثقافية والليلية في بيروت. فهذا النشاط الذي يستوحي عنوانه من أغنية وضع كلماتها الأخوان رحباني وغنّتها فيروز يعتمد بشكل أساسي على مشاركة أهل الحي فيه اضطلاعًا ببعض جوانبه أو ترحيبًا في منازلهم وشرفاتها وسطوحها بجوانب أخرى. بهذا المعنى، لا مبالغة في القول إن «نحنا والقمر والجيران» ترجمة دورية حية لفلسفة «كهربا».
لا تدّعي «كهربا» بإيكالها أدوارًا ومهامَ اجتماعيةً للفنون، لا سيما الاستعراضيَّةَ منها، أنها اخترعت البارود، ولا تدّعي حتى الريادة في هذا المجال لبنانيًّا على أنَّ قليل ادعائها لا يُقَلِّلُ مِمّا أضافته في هذا المجال. وإذ تَساوَت حظوظُ «كهربا» خلال السنوات الماضية بحظوظ آخرين، وقورن ما قدمته بما قدموه، فلن يمكنها بعد اليوم، مع وضع «بيت الفنان» بتصرفها، أن تُساوي بين الانتظاراتِ المعلقة عليها، أو قل التي علقت نفسها بها، وبين الانتظارات المعلقة على الآخرين، وهنا يصح في «كهربا» ما يذهب إليه المثل السائر بأنه «عند الامتحان، يُكْرَمُ المرءُ أو يُهان». فـ «بيت الفنان» امتحان في مواد كثيرة وليس في الفن والإبداع فقط: امتحان لمفهوم «اللامركزية الفنية»، بمقدار ما هو امتحان لقدرة مَشروعٍ أرْيَحيٍّ عماده الشراكة بين المالِ والفن على الدوام والاستمرار، ماديًّا ومعنويًّا، ولقدرته، استطرادًا، على أن ينزل منزلة النموذج الذي يُحتذى أو قل يتشجع آخرون على الاحتذاء به.
عندما يَسأل فضوليٌّ روبير عيد كم أنفق على «بيت الفنان» من يوم أن اقتنع بالفكرة إلى يومنا هذا يتهرب، بارتباك، من الجواب مُكتفيًّا بالقول إن منطق «العائد على الاستثمار» الذي يحكم على كل مشاريعه الأخرى لا يسري على هذا المشروع، مضيفًا بأنَّ الأمل منه أن تتمكن مجموعة كهربا، خلال فترة زمنية ما، من النجاح في تأمين الموارد التي تُتيحُ لهذا المشروع أن يقوم بِأوَدِ نفسه.
حق عيد أن يحتفظ لنفسه بجداول إنفاقه على بيت الفنان وحق «كهربا» علينا، على ما يقول المثل، أن «ننتظر ونرى ما سيكون»، ولكن بين الحَقَّينِ هذين لكلّ واحد منا، وواحدة، الحقَّ بأن يتساءل لا مؤمِّلاً أن يقع على الجواب الشّافي: كيف لبلدٍ تتوالى الأسبابُ الموجبة للفرار منه أن يَفتن مصرفيًّا فيقرر، لوجه الدلال، أن ينفق الملايين على مسارب طفولته؟ وكيف لبلد تغشى مستقبله العتمة أن يَفتِن مجموعة من الشبّان والشابات تنفتح لهم أبواب العالم على وسعها فيتخذوا من حمّانا عاصمة لكهربائهم؟ الجواب، على الأرجح، هو في العياء، حتى إشعار آخر، عن الجواب!
روائيّة من لبنان
رشا الأمير
مقال واف وسلس بلغة عربية ملفتة ببلاغتها، أجاب عن كل تساؤلاتي السابقة حول “بيت الفنان” و”مجموعة كهربا”.
مقالات كهذه تشجع على زيارة البيت والتفاعل مع نشاطاته، وتعيد شيئًا من الأمل بالحياة الثقافية في لبنان.
شكرًا رشا الأمير، شكرًا “القدس”.