بيروت – «القدس العربي» : حفر المكان عميقاً في وجدان الأديبة أملي نصرالله. عجنها مكانها الأول وامتزجت به كما الخميرة، وابت الإنفكاك منه. لم يغرها جديد مهما بلغ بريقه. زارت مدناً في شرق الأرض وغربها، وبقيت تأنس وتعشق المكان الأول «الكفير».
أخذ بعضهم عليها تمسكها بطباعها الأولى، نقائها وتواضعها، وإعلانها حيث يجب نشأتها وانتمائها الفلاحي. بلغها كلام مغزول بهذا المنوال، ولم تر ضرورة للتغيير، التبرير أو الرد.
استقر جسد أملي نصرالله في «المكان» الذي أرادته، «غلّت» فيه كما فعلت عمراً في حضن «روجينا». «المكان» عنوان لآخر مخطوطاتها، احتضن بين دفتيه سيرتها الأولى. تلمست نسخته الأولى قبل الأفول بأيام، رضيت وباركت.
بأناقة وحرص متناه صدر كتاب «المكان» عن دار قنبز. حمل ألوان الأرض وخيراتها، كلله جبل الشيخ الأبيض، وزنّره شريط أصفر حضن كتيباً بمعاني كلمات أثيرة ولصيقة بصاحبة «المكان».
مفردات قد تكون عصية على أجيال ما بعد منتصف القرن الماضي. وفي «المكان» خارطة منفصلة عن الإنتشار اللبناني في أصقاع الأرض. فصاحبة «طيور أيلول» كما كثير من أبناء وطنها عاشوا ويعيشون مرارة الهجرة.
في «المكان» سيرة تبدأ من الطفولة إلى الدراسة الجامعية في بيروت. تسرد الكاتبة كما نعهدها بانسياب وبساطة، عوالم معهودة من قلة من اللبنانيين.
أنصفت والدتها
في سرديات الذات والسيرة توقفت أملي نصرالله عند سيرة «لُطفى». وصفتها بالإسم «على المسمى» للطافتها المتناهية. لكن أحداً لم يتخيل كتمانها سرها ولعقود ثلاث، رغم أذية الصمت لسمعتها وعائلتها. أملي نصرالله وقبل رحيلها أنصفت والدتها التي لاكت سمعتها الألسن بعد زواج في الطفولة من ثري «عنّين»، «برطل» أو رشا الكنيسة لتحقيق الطلاق. فالطلاق لا يتم بعد زواج قصير إلاّ لفاقدة العذرية. داهود صاحب المطحنة ورغم كل الشائعات دلّه قلبه أن «لُطفى» بريئة. كان مقداماً فخوراً باختياره مدى العمر. وهكذا رفعت الأديبة الغطاء عن واحدة من قصص المسكوت عنه في مجتمعاتنا.
يقع «المكان» في حوالى 270 صفحة ويجمع بين دفتيه إضافة لسيرة كاتبته، صوراً من أرشيف العائلة، ورسوماً مميزة لشجرتها. ومنه نعرف عائلة الولادة لأملي أبي راشد، وعرفت بعائلة زوجها فيليب نصرالله.
لإطلاق «المكان» دعا دار قنبز، وبالتعاون مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة الأمريكية في بيروت، لحفل يوم الأربعاء 5 الشهر المقبل من الساعة 6 إلى 9 مساء، في معهد عصام فارس، مقابل «غرين أوفال» يتضمن البرنامج ندوة من الساعة 6 إلى 7 تشارك فيها مديرة دار قنبز ندين توما. مترجم كتب أملي إلى الألمانية هارتموت فندريش. والمؤرخة طفول أبو حديب. تلي الندوة قراءات بصوت أملي نصرالله من كتاب «المكان». والختام بتوقيع الكاتبة في الركن المخصص للبيع.
التوقيع الثاني للكتاب تقيمه دار قنبز في 8 و9 الشهر المقبل في افتتاح «بيت طيور أيلول» في الكفير. تقول توما: كتبت أملي نصرالله سيرتها في السنتين الأخيرتين من عمرها الذي امتد 87 سنة. سيرة عن أسلافها ولا تغطي كامل حياتها. كتبت طفولتها، والمؤثرين في حياتها من سلالة والدتها حيث نشأت. عوالم أملي ممزوجة بعائلة والدتها، حبها لجدتها، للمدرسة والعلم. هي حقبة تصل تقريباً لعمر العشرين من حياتها. فهي ترى أن ما كانته في حياتها ناتج عن تلك النشأة مع جدتها «روجينا»، ولها أهدت الكتاب الأخير. ولكل فصل في الكتاب عنوان كخالها «أيوب» الذي تعلمت منه الكثير».
وعن سيرتها مع كتابها الأول «طيور أيلول» تقول توما: في «المكان» تذكر هجرة اخوتها ومدى تعلقها بهم. وتذكر مدى تأثر كتابتها جميعها بموضوع الهجرة. ولأن «طيور أيلول» باكورتها سيكون اطلاق السيرة في ايلول/سبتمبر.
أملي نصرالله ومكانها الأول
لم تغادر أملي نصرالله مكانها الأول، بقيت على ثباتها وانتمائها، ولهذا اختارت «المكان» عنواناً لسيرتها. تقول توما: نظراً لرابط أملي بـ«المكان» تصدر جبل الشيخ الغلاف الأول. افتخرت أملي بعيشها لحقيقتها وتصالحها مع ذاتها. عرفت بمرضها الخبيث. أنهت المخطوطة ورغبت في تصفحه مطبوعاً، فسرّعنا بانجازه. وتسلمت بنفسها النسخة الأولى من المطبعة مباشرة. جميعنا كان بقربها حين تسلمت نسختها. كانت بكامل تألقها الفكري، وملاحظاتها الثاقبة. سجلنا اللقاء حيث قالت «هكذا عمل لا يكون دون حب. مع الحب تصبح الأشياء أجمل». يمكنني القول إن أملي أقفلت بنفسها كافة دوائرها.
أن تفوز «دار قمبز» المتخصصة حتى الآن بإصدار كتب الأطفال بـ«المكان» أمر يدعو للسؤال؟ تجيب توما: تلقينا اتصالا من ابنتها مها طالبة اهتمامنا باصدار آخر كتب والدتها. مسؤولية كبيرة توليناها. كنا حيال مخطوط جميل. وحيال اسم له إرث أدبي كبير، ومن جيل مختلف. وحيال اصدار يجب أن يحمل قيمته ومقامه معاً. كدار نشر نعتبر اختيارنا لنشر «المكان» كما الهدية. في تفاصيل الكتاب أنه تضمن بيوغرافي عن اعمالها من أدب اطفال، قصص قصيرة وروايات. ولدت أملي سنة 1931، واصدرت طيور أيلول سنة 1962. رحلت في 13 آذار/آذار 2018 وبقيت تقول إن المكان الذي عاشت فيه يسكنها، كان جبل الشيخ على الغلاف.
ما هو دور أبناء أملي في إصدار وتنظيم إطلاق «المكان»؟ هو عمل مشترك تقول توما مضيفة: فُتح لنا ارشيفها. استمر التواصل في كافة مراحل الكتاب. كذلك في تنظيم الإحتفالية بمرحلتيها في أيلول / سبتمبر. إلى «بيت طيور أيلول» في الكفير ندعو من يرغب بمرافقتنا في 8 و9 أيلول/سبتمبر، وسنتولى النقل. «بيت طيور أيلول» هو «المكان» الذي صار كتاباً مفتوحاً ومعرضاً. اشترت أملي بيت طفولتها، وكان عبارة عن بيت سقفه من تراب كما بيوت القرى في بدايات القرن الماضي.
بعد رحيلها سارعت ابنتها مها لترميمه، وبات جاهزاً كمكان اقامة أدبية وفنية لمن يرغب بالكتابة حول موضوع الهجرة، وتتولى إدارته جمعية. وسيضم «بيت طيور أيلول» مكتبة عامة مفتوحة لمن يرغب، من محتوياتها ارشيفاً وصوراً من سكان بلدة الكفير.
عن «معاني المكان» القاموس الصغير الذي يحتضنه الكتاب تقول توما: قرأت مخطوطة «المكان» وجدت الكثير من الكلمات غير المفهومة رغم كوني من مواليد القرية وسكانها لسنوات، وإلمامي قائم نسبياً في العوالم التي روتها أملي. من المؤكد أن الجيل الجديد، ومن بينهم أبناء القرى يجهلون معنى «اليوك، الدست، القطانة وسواها». ولأن «المكان» وثيقة تاريخية، انتروبولوجية، سوسيولوجية كان القرار بأن يكون «معاني المكان» متضمناً شرحاً لأكثر من 300 كلمة وردت فيه وبالألوان. ولأن الكتاب وثيقة تاريخية غير جافة رغبنا بأن يصار تقديمه من زوايا متعددة جغرافية، تاريخية وسيرة أملي الأدبية وعوالمها. ولهذا اخترنا مترجم رواياتها للألمانية هارتموت. فالمترجم له ملكة تحليل اعمال الكاتب بما يفوق الناقد أحياناً. طفول أبو حديب متخصصة بالحقبة التاريخية التي كتبت عنها أملي، وهي مرحلة الإحتلال العثماني في مناطق جنوب لبنان وفلسطين وسوريا. ونتولى في دار قنبز الإفصاح عن تفاصيل ولادة «المكان».
«المكان» يتضمن خريطة رسوماً وصوراً
تصف توما لحظة الطلب من أميلي نصرالله توقيعاً بأنها كانت لحظة مؤثرة جداً. «طلبنا توقيعها على ورقة بيضاء. كانت تدرك أنه الأخير. وبدورنا حولنا التوقيع إلى طابع حملته كافة اعداد «المكان»، وأضفنا له الدائرة. كل جلسة لي ولزميلتي سيفين في دار قنبز مع أملي نصرالله كانت بمثابة هدية».
في اهتمام متحف سرسق ببيع «المكان» تشرح توما بأنه كتب دار قنبز بما تتضمنه من رسوم فنية تلقى عناية من القائمين على المتحف. وكان الإهتمام موصول بـ»المكان» لأنه ليس وثيقة وحسب بل يتضمن خريطة، رسوماً وصوراً، وسينال اعجاب شريحة كبيرة من الناس الراغبين بالحصول عليه. تحمل الخريطة على أحد وجهيها «مكانكم» في الوطن، وعلى الثاني «مكان هجرتكم». خريطة تحمل نقيضي حياة اللــــبنانيين.
للراغبين بزيارة «بيت طيور أيلول» في الــــكفير في 8 و9 أيلول/سبتمبر الإتصـــال للحجز على الرقم 70917156.
7MED
زهرة مرعي: