حاصر حصارك… بين بيروت وغزة ثلث قرن ماذا اختلف؟

هل كان حال العرب أفضل مما هم عليه الان، عند اجتياح اسرائيل لبنان في يونيو/حزيران 1982 ومحاصرة بيروت الغربية في أغسطس/آب  ورحيل المقاومة الى تونس واليمن وعواصم اخرى ومنافي جديدة، ثم ما تبع ذلك من مذبحة صبرا وشاتيلا المروعة؟ دعونا نقرأ التاريخ من خلال قصيدة الراحل محمود درويش التسجيلية مديح الظل العالي.. كل هذا جرى والانظمة العربية تتفرج (وربما تبارك) والفلسطينيون والقوى الوطنية اللبنانية تواجه آلة الحرب الاسرائيلية وحدها، «كم كنت وحدك» و»لا أحد الاك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان». كان الصمت الرسمي يخيّم على العواصم كلها «وهذا الصمت عال كالذبابة»  و»هذا الصمت يأتينا سهاما»، انه الصمت المؤلم.. صمت المقابر «لا تذكر الموتى، فقد ماتوا فرادى أو عواصم». انه الجفاف السياسي، «هذه الصحراء تكبر حولنا، صحراء من كل الجهات». وضع محبط وغير معقول «ظلام، كل ما حولي ظلام» وقتها، والى الآن لم تعرف هذه العواصم سوى البيانات «فأنكروك لأنهم لا يعرفون سوى الخطابة والفرار». لا سند ولا ظهير. «لا أرض تحتي كي أموت كما أشاء، ولا سماء حولي لأثقبها وأدخل في خيام الأنبياء، ظهري الى الحائط، الحائط/ الساقط. وبألم يقول «اذا اتحد الشقيق مع العدو»، ليصل الى استنتاجات غاية في البساطة، والاهمية «حين يبتسم المخيم تعبس المدن الكبيرة» و»لولا هذه الدول اللقيطة لم تكن بيروت رملا». بعد ثلث قرن لم تتغير الدول اللقيطة، ولك ان تغير بيروت بغزة  لتصلح القصيدة لعام 2014 ويبقى المشهد القاتم كما هو لم يتغيّر. الى كل الذين يقولون الان سقط القناع، لقد قالها درويش قبل ثلث قرن «سقط القناع عن القناع» وبمرارة « لا أخوة لك يا أخي، لا أصدقاء»، لماذا اتخذت هذه العواصم مثل تلك المواقف المخزية تجاه بيروت حينئذ وتجاه غزة الان. السبب بسيط وواضح «عرب أطاعوا رومهم»، ولذلك كان لا بد من الصرخة الثورية المباشرة بدون اي رتوش، «يجب انهيار الانظمة، يجب انتظار المحكمة»، لا بد انه يقصد محاكمة الشعوب لهذه الأنظمة، وقد حاولت عدة شعوب ذلك في ربيع 2011 ونجحت مؤقتا قبل ان تعود الانظمة، مثل نظام السيسي ليحاكم الثوار ويكرس النظام السابق ويبرئه من كل آثامه.
على أن درويش، رغم كل المحبطات حوله والتخاذل، لم يكن ليترك اليأس يفترسه والا لما كان شاعرا، ولا كان فلسطينيا. ها هو يتنبأ «هي آخر الطلقات؟ لا»  ولا شيء يكسرنا». وبفخر «لا راية بيضاء في بيروت»، ولا في غزة. صمود أسطوري قبل ثلث قرن في بيروت، كما هو الان في غزة «ألف قذيفة أخرى ولا يتقدم الاعداء شبرا واحدا». دعوة الى التشبث  والتقدم «حاصر حصارك لا مفر»  و»فأنت الآن حر.. وحر.. وحر»، لقد أدرك أنها معركة وجود «فأما أن تكون أو لا تكون»، لذلك لا مجال للنكوص.
في اشارة تهكمية ساخرة يقول درويش « يبذل الرؤساء جهدا عند أمريكا لتفرج عن مياه الشرب». تأملوا حلاوة التعبير في لتفرج. الظاهر كان في زمان بقية من نخوة، اما الان فلم يبذل أي منهم جهودا للافراج عن الماء او الكهرباء أو الدواء أو الوقود، من أجل غزة. وفي اشارة الى مؤتمر القمة العربي في فاس يقول «بعد شهر يلتقي كل الملوك بكل أنواع الملوك، من العقيد الى العميد»، وليتهم لم يلتقوا فبدلا من موقف حازم من تدنيس الدبابات الاسرائيلية لعاصمة عربية، إذا بهم يخرجون بمبادرة سلام عربية، بل الأصح بمبادرتين تونسية وسعودية، تعترف القمة بان تعيش كل دول المنطقة بسلام وأمان، تماما كما حصل في مؤتمر القمة في بيروت 2002 والرئيس الراحل عرفات محاصر في المقاطعة بالدبابات الاسرائيلية، فبدلا من دعمه، ولو معنويا على الأقل، تفتحت قرائحهم عن عرض مبادرة السلام العربية، السعودية الفكرة، التي تعترف باسرائيل وتعرض التطبيع الكامل معها مقابل دولة فلسطينية على حدود 1967، ويا لخزيهم، لقد رفضتها اسرائيل. قد يقول قائل، كأن الوضع أحسن قبل ربع قرن، على الأقل عقدت قمة عربية، حتى لو متأخرة شهرا بعد اجتياح بيروت، ولم تعقد الان قمة من أجل غزة! الرجاء التكلم بهمس، فالحيطان لها آذان، ولا نريد لأصحاب الفخامة والجلالة والسيادة أن يسمعوا ان هناك مطالبات شعبية لهم بأن يجتمعوا، فلربما تؤنبهم ضمائرهم (الميتة) عن تخاذلهم فيدعون الى قمة عاجلة من أجل غزة. أما إن حدثت،، فأنتم، أيتها الشعوب العربية مسؤولون أمام التاريخ عن قرارات قمة كهذه، ولكم ان تتخيلوا قرارات مثل نزع سلاح المقاومة، وزيادة عدد العواصم التي ستفتتح سفارات اسرائيلية جديدة، او الافصاح جهارا عن العواصم التي لها علاقات سرية مع الكيان الصهيوني، وعندها قد تصابون بصدمة لا تحمد عقباها. لذلك نضرع الى السماء الا تنعقد القمة، درءا للشرور التي قد تنجم عنها.
الخلاصة، الوضع العربي الآن سيئ كما كان قبل ثلث قرن، وربما أسوأ، خاصة إذا نظرنا الى الوضع في مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان.. اما  الفلسطيني، فرغم الحصار الاسرائيلي والمصري لغزة، فما زال متمسكا بثوابته، مدافعا عن حقوقه، مرابطا بالمرصاد في مواجهة عدو يفوقه تسلحا بدرجات ودرجات، ولا مجال للمقارنة، ولكن يثبت صاحب الحق انه سيبقى ندا قويا، لا يتنازل ولا ينكسر، حتى إن بقي بالساحة وحيدا. الغزيون الآن يحاصرون حصارهم.

٭ كاتب فلسطيني

د. خليل قطاطو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية