كان حاكمنا يحب مساعدة مواطنيه بكل الوسائل، وقد نمى إليه أن سكان إحدى القرى يعانون الويلات بسبب البرد القارس، ويمنعهم فقرهم من شراء الحطب أو المازوت لمدافئهم، فأشفق عليهم، وتاق إلى مساعدتهم، ولكنه اكتشف أنه لا يستطيع طرد الشتاء من البلد، فأمر بإحراق بيوتهم، وتجلت حكمة حاكمنا عندما التهمت النيران البيوت، ومنحت الفقراء الدفء المنشود.
وكان حاكمنا يكره الجوع، ويتمنى هزيمته ودحره، وقد علم أن أسعار المواد الغذائية قد ارتفعت ارتفاعاً مجنوناً إلى حد أن أكثرية المواطنين قد باتت عاجزة عن الحصول عليها، فعمّ الجوع وانتشر انتشاراً أغضب حاكمنا الذي فسر ما حدث بأن الجوع يتحداه ويهزأ به، فسارع إلى الرد عليه الرد السريع الصاعق، وأمر مخابراته باعتقال من هب ودب من المواطنين، فامتلأت السجون بالسجناء، ولكنهم كانوا ناكرين للجميل، ولم يشكروا من أتاح لهم الحصول على الطعام اليومي مجاناً.
وكان حاكمنا جريئاً جرأة لا مثيل لها، ففي ليلة من الليالي طلبت إليه زوجته بصوت صارم بارد ألا يشرب كأس العرق الممزوج بالماء، فحدق إليها بنظرات متحدية، واحتسى ما في الكأس دفعة واحدة، فلم تجرؤ زوجته على النطق بكلمة واحدة، وبدت كمن ألقمت حجراً من سجيل، وماذا تستطيع أن تقول لسبع السباع ورجل الرجال وأسد الأسود؟
ومن المؤكد أن المؤرخين المنصفين اضطروا إلى تسجيل جرأة حاكمنا وشجاعته بمداد من ذهب ونور.
وكان حاكمنا عاشقاً للعدل، فأمر أبرع خطاطي البلد بالتنافس على كتابة كلمة (العدل) بأشكال مبتكرة جديدة، ووهب المتفوقين منهم المكافآت المادية السخية.
وكان حاكمنا كارهاً للظلم والظالمين، ولما بلغه أن ثمة اقطاعياً يتفنن في ظلم الفلاحين العاملين في أراضيه واضطهادهم، فاستدعاه على عجل، وعينه وزيراً كثير الأسفار، فرحب الفلاحون بغيابه الذي أنقذهم من ظلم لا يصبر عليه، ولكن ثمة موتورين حاقدين قالوا: كان يظلم قرية، فأصبح الآن يظلم البلد كله.
وكان حاكمنا يقدس الحرية ويحترمها، فأتاح لأهله وأقاربه وجيرانه في قريته التمتع بها من دون قيد أو شرط، فكل الناس ولدوا أحراراً.
وكان حاكمنا متسامحاً لا يبغض معارضيه، ويحلو له تقديم العون إليهم، ولما قبضت مخابراته على أشرس معارض له، أمر بجلبه إلى مخبئه السري، وسأله: أيهما تفضل؟ السكن في بيت صغير ضيق الغرف أم السكن في قصر؟
فأجاب المعارض فوراً : أفضل القصر والحرية.
فبادر حاكمنا إلى معاونته تواً على الرحيل إلى عالم القصور والجنات التي تجري من تحتها الأنهار.
وكان حاكمنا لطيفاً لا يظهر لطفه إلا في الملمات، وقد حضر يوماً إعدام أخطر أعدائه بغية تشجيعه على استقبال الموت برأس مرفوع، وسأله عن آخر أمنياته، فأجاب: تدخين سيجارة.
فقدم إليه سيجارة من أفخر ماركة، وأشعلها له، ولم يتنبه المحكوم بالشنق لهذا اللطف الآسر، وقال لحاكمنا لحظة طوق حبل المشنقة عنقه: مهما حاولت التأجيل، فستشنق في النهاية كما أشنق الآن.
فلم يجاوب حاكمنا، واكتفى بأن ابتسم ابتسامة ملأى باللطف والود والتواضع.
وكان حاكمنا محباً للضحك، ولكنه لا يضحك الضحك العفوي الصادق النابع من القلب إلا حين يكتشف أن ملايينه غدت مليارات.
وكان حاكمنا مغرماً بالأطفال، ويصفهم بأنهم الربيع الدائم ورجال المستقبل، وينظر بعينين دامعتين إلى جثث الأطفال الذين قتلهم جنوده، ويتبرع لهم بأفخر الأكفان.
وكان حاكمنا محباً للتخيّل، وقد تخيل يوماً أنه قد أمر بإعدام شعبه بكامله، وطاف في أرجاء البلد وحده مستمتعاً بسكينة لا نظير لها، ولكنه تنبه بغتة إلى أن التخيل هو في معظم الأحيان ليس سوى غرق في الأوهام واستسلام لها، فبادر إلى الرجوع إلى أرض الحقائق، وأمر بالقضاء على كل شعبه مستثنياً خدمه وخدم خدمه، فسارع الى تنفيذ أمره الجنود المستوردون من دول أخرى بأسعار مخفضة لا تزاحم.
وكان حاكمنا مؤمناً بفوائد الاستيراد والتصدير، وسيحاول استيراد شعب صالح بدلاً من شعب طالح.
زكريا تامر