حرفة صناعة الموت عن بعد

نشرت صحيفة «الغارديان» البريطانية مؤخراً تقريراً عن مقتل الطفل محمد تويمان، الذي لم يتم ربيعه الثالث عشر، بنيران الطائرات الأمريكية بدون طيار، التي يفترض استخدامها للنيل من عناصر تنظيم «القاعدة»، حسب ماكينة الدعاية الأمريكية.
وهو الطفل نفسه الذي قامت في عام 2011 الطائرات نفسها بقتل والده وشقيقه الطفل الآخر، حينما كان يرعيان الجمال التي تمتلكها عائلة تويمان في سهوب مأرب اليمنية. وحسب الرواية الرسمية الأمريكية فإن العملية التي قتل فيها محمد وقبلها العملية التي قتل فيها والده وأخوه وهما يرعيان جمالهما كانت «عملية نوعية للمخابرات المركزية الأمريكية CIA، قتل فيها ثلاثة رجال يعتقد أنهم من العناصر المسلحة لتنظيم «القاعدة»، وعند سؤال صحيفة «الغارديان» بشكل مباشرة لوزارة الدفاع ووكالة المخابرات الأمريكية لتأكيد مزاعم كون الطفل محمد تويمان عنصراً مسلحاً من تنظيم «القاعدة»، رفضت المؤسستان الإجابة والتعليق، حسبما جرت عادة المؤسسات الرسمية الأمريكية الإجابة والتعليق على أي من انتهاكاتها لحقوق الإنسان والقانون الدولي.
وللمفارقة المأساوية فقد كانت صحيفة «الغارديان» نفسها، قد أجرت مقابلة مع الطفل محمد تويمان نفسه قبل أشهر قليلة من مصيره التراجيدي، تحدث فيها عن رؤيته لماكينات القتل الطائرة يومياً، وعن أن الكثير من أقرانه الأطفال في المنطقة يستيقظون من نومهم على كوابيس مذعورين من تهيؤ آلات القتل الطائرة، حتى أن بعضهم أصبح يعاني اضطرابات عقلية. فلقد أصبحت المنطقة التي يعيشون فيها في مأرب «كما لو كانت جهنم وأرض لرعب لا ينقطع». وأردف محمد الطفل ببلاغة الكهول مختزلاً بها حزنه المقيم، «نحن في عيونهم لا نستحق الحياة مثل باقي البشر في الأرض، وأننا ليس لدينا مشاعر أو عواطف، وأننا لا نشعر بالألم أو نبكي مثل كل البشر في هذه الأرض». ليتحول بعد تلك المقابلة بأشهر قليلة جسد محمد الطفل اليمني النحيل إلى جثة متفحمة، ليس لها معالم لتظهر عمق الخوف والأسى المقيم الذي كابده الطفل محمد، و كل أقرانه من الأطفال الذين يعيشون تحت رعب أنظمة القتل الأمريكية عن بعد في اليمن وفلسطين والعراق وسوريا، وأفغانستان وباكستان، وليبيا والسودان، والقائمة تطول لما يصفه المفكر نعوم تشومسكي بالميزة الفارقة لعقيدة الرئيس أوباما الحائز جائزة نوبل للسلام، القائمة على «قتل جميع الأعداء المحتملين»، واعتبار الضحايا المدنيين ضمن هامش الخطأ المقبول، في تناقض مع عقيدة سلفه جورج بوش الابن القائمة على «اعتقال جميع الأعداء ورميهم في السجون السرية وتعذيبهم للاعتراف بما تريده الإدارة والماكينة الدعائية الأمريكية».
حسب جوان كول، أستاذ التاريخ في جامعة ميتشغان في الولايات المتحدة، فإن عدد الضحايا من المدنيين بنيران الطائرات الأمريكية من دون طيار في باكستان وحدها يتراوح بين 423- 962، يضاف لهم من الأطفال ما يتراوح بين 172-207، حيث تختلف الإحصاءات حسب المصادر المستقلة وأهمها مكتب الصحافة الاستقصائية في لندن. ويضيف الأستاذ كول بأنه لا يوجد في القانون أو الدستور الأمريكيين أو القانون الدولي ما يخول في الولايات المتحدة في قتل من تراه «عدواً لها في أي مكان في العالم، من دون محاكمة عادلة»، خاصة أن تعريف القانون الدولي لقواعد الاشتباك الحربية يشترط «أن تكون هناك حالة حرب بين دولتين»، ولا يوجد تعريف في ذلك القانون الدولي عن حالة حرب تقوم بين «دولة من طرف وأفراد ومنظمات من الطرف الآخر»، لينطبق عليها التعريف التقني لقواعد الاشتباك الحربي، خاصة أن الولايات المتحدة ليست في حالة حرب مع أي من الدول التي تسرح وتمرح فيها ماكينات القتل الطائرة التي تديرها عن بعد. لا يمكن لمطلع أن ينكر قيام الولايات المتحدة بتصنيع تنظيمات الإسلام الجهادي، والمجاهدين الأفغان لمحاربة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، في ثمانينيات القرن المنصرم، ومن ثم تصدير أولئك إلى دولهم الأصلية عقب انتهاء الحاجة النفعية للأمريكان بهم، ليكونوا بمثابة خلايا نائمة أو سرطانية نخرت المجتمعات العربية جميها ومن دون استثناء، وكان آخرها النبت الداعشي الذي يكاد يلتهم أرض الرافدين والشام معاً. وعلى الرغم من أن برنامج القتل عن بعد الذي دأبت عليه الإدارات الأمريكية الثلاث الأخيرة، واعتمدته إدارة أوباما رأس حربة تكتيكية ودعائية في آن معاً، لم يثمر في أي تراجع لجبروت التنظيمات الجهادية، ولكن يبدو أنه أفلح ويفلح فعلياً في تشتيت الجهاديين بفكرهم وتنظيمهم الحديدي، الذي تم تصميم بنيانه ومنهج عمله في الولايات المتحدة لصالح الآباء المجاهدين الأفغان، ليهربوا من منطقة ينالها القصف الموجه عن بعد إلى منطقة أخرى، كما حدث في انتشار المجاهدين إلى كثير من أقاليم باكستان، عقب الغزو الأمريكي لأفغانستان، ليقوم أولئك الأخيرون بدورهم المقدس في تخريب المجتمعات التي التجأوا إليها، ودفعها عنوة بقوة الحق الإلهي إلى أتون التطرف والاحتراب الأهلي، على طريقة طالبان الأفغانية. والأخطر من ذلك كله هو الذي تحدث عنه شقيق الطفل الشهيد محمد تويمان، الذي طالما اجتهد اجتماعياً وقانونياً وقضائياً، ليثبت للجميع بأنه وعائلته بريئون من أي علاقة بتنظيم القاعدة: «لا تلومن أحداً إذا تعاطف مع تنظيم القاعدة، لأنهم هم الوحيدون الذي أظهروا وجوههم لنا، نحن البريئين من أي علاقة بهم، حكومة اليمن لم تفعل شيئاً، والأمريكان تجاهلونا لأننا فقراء وضعفاء، ورفضوا إعطاءنا أي تعويضات. سوف نذهب إلى المحاكم اليمنية لنثبت أن كل ذلك خطأ». وها هو الآن اليمن الحزين، وقبله سورية والعراق وأفغانستان وليبيا، جميعها قد دخلت في نفق الدول الفاشلة، التي ليس فيها محاكم لتنصف محمد وأمثاله من المدنيين والأطفال، حتى يكاد يبدو لكل مراقب حصيف بأن برنامج طائرات القتل من دون طيار ليست برنامجاً للقتل عن بعد فقط، وإنما برنامج لتصنيع وتوليد المجاهدين، ونشرهم في أرجاء المعمورة ليقوموا بتوطيد أركان الحرفة الأمريكية القديمة الجديدة في صناعة التطرف والمتطرفين.

٭ كاتب سوري مقيم في لندن

د. مصعب قاسم عزاوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    هناك الآلاف مثل هذا الطفل ذهبوا ضحية للغطرسة الأمريكية
    فبالرغم من الأعداد المتزايدة من الضحايا ما زالت تلك الطائرات تحوم

    ولا حول ولا قوة الا بالله

اشترك في قائمتنا البريدية