«حين اختفى النحل» للنرويجية مايا لونده: النص الروائي والحساسية البيئية المعاصرة

تكمن أهمية رواية «حين اختفى النحل» للنرويجية مايا لونده في أنها تنقل بحرفية تامة ما بات معروفا عن تنامي الحساسية الإنسانية حيال المشكلات البيئية، التي صرنا نعدها واحدة من أهم معضلات عصرنا الحالي، ولا غرابة في أن تكون صاحبة الرواية من الناشطات المعروفات في المجال البيئي، ذلك أنها تنطلق في تساؤلاتها العميقة عن معرفة علمية دقيقة تحيل القارئ إلى تلك العلاقة الجدلية التبادلية بين البشر وبيئاتهم الطبيعية، بل تفتح المجال أمامنا لمعرفة من نكون؟ وكيف نحيا في هذا العالم؟ وما هي النتائج المستقبلية التي تنتظرنا بحكم علاقتنا بالبيئة من حولنا؟ وهي على العموم علاقة باتت تؤثر في النصوص الأدبية بفعل الأفكار الجديدة للنقد الإيكولوجي، وهو نقد معروف عنه أنه يجعل من الترابطات بين الطبيعة البشرية وغير البشرية موضوعا له، أو بؤرة أولى له، فيركز على الأدب وعلاقته بالبيئة، بما يصح تعريفه بأنه موقف نقدي يضع إحدى قدميه في الأدب والأخرى على الأرض، وفقا لأستاذ الأدب الإنكليزي مايكل برانش الذي يعد واحدا من أهم رواد النقد الإيكولوجي المعاصر.
تتقافز الرواية بين أزمنة ثلاثة متباعدة، الرابط المشترك بينها أن أبطالها الثلاثة نحالون تحيط بهم مشاكلهم الشخصية غير المنفصلة عن وجود النحل حرفة في حياتهم. نبدأ من حيث ابتدأت الرواية نفسها، مع (تاو) هذه المرأة الصينية التي تعيش في المستقبل عام 2098، أي بعد الكارثة العالمية الخاصة بالنحل، وعن طريقها نعرف الكثير عن عالم تربية النحل عبر التاريخ، ومن ثم انهياره، الذي منح اسم «اضطراب انهيار المستعمرة» عام 2007. علما أن الانهيار كانت له مقدماته التي سبقت هذا العام، أو أسبابه المختلف عليها، والتي أحدثت جدلا واسعا، من مثل الاستخدام الواسع للمبيدات الحشرية السامة، التي بات يعتقد أنها تؤثر على نظام الملاحة الداخلي للنحل، ما يحول دون أن يجد النحل طريق عودته إلى الخلية. والمشكلة الأكبر التي تطلعنا عليها الرواية أن عملية حظر السموم حفاظا على النحل أدت إلى تدمير العديد من المحاصيل الزراعية بسبب تكاثر الحشرات، إذ كان من المستحيل ممارسة الزراعة الحديثة من دون المبيدات الحشرية، بل يقال إن السموم بعد الحظر بقيت في التربة، ولم يحل حظر المبيدات دون اندثار النحل. والرواية إضافة إلى ما سبق تشير بإصبع الاتهام إلى طفيليات صغيرة تلتصق بجسم النحلة وتهاجمها، كما تشير إلى الطقس القاسي الذي أصاب العالم بدءا من عام 2000، ليصبح الصيف حارا وبلا زهور ورحيق، وكذلك الشتاء يصبح قاسيا، لتكون النتيجة المؤلمة في كل الأحوال أن النحل لم يستطع أن يواكب هذه التغيرات، لذلك يختفي النحل.
في وقت يبدو فيه أن الصين تتحمل مسؤولية العمل على تلقيح النحل وإعادته من جديد، لأنها كانت الأولى من بين من استخدم المبيدات الحشرية، كان على (تاو) أن تجهد هي ومجموعة من النساء للعمل على تلقيح براعم الأشجار بأدوات يدوية تقليدية «كنا أمة رائدة في التلوث وأصبحنا أمة رائدة في التلقيح الاصطناعي باليد، كانت المفارقة التي أنقذتنا». ولربما تكون هذه الشابة وقصة اختفاء ابنها (وي ون) هي الأبرز من بين شخصيات الرواية؛ تابعناها خطوة بخطوة وهي تبحث عن ابنها ذي الثلاث سنوات الذي أخذته السلطات إلى بكين بعد معاناته من رد فعل تحسسي غامض خلال نزهة في الغابة، ما دفعها إلى ترداد كلمتي «هذا خطأي. هذا خطأي»، مع تنامي شعورها أثناء ذلك بحالة من الجفاف التي أصابت علاقتها بزوجها (كوان).
لدينا في الرواية أيضا (وليم) عالم الأحياء الذي يعيش في منتصف القرن التاسع عشر، والذي يعاني حالة من الاكتئاب، وعدم القدرة على الحركة بسبب شعور بالخيبة انتابه لأنه عجز عن تحقيق تطلعاته العلمية، إضافة إلى انشغاله بتأمين احتياجات أبنائه السبعة. يبقى هذا الشعور ملازما له، إلى أن يلهمه معلمه كيف يصمم خلية نحل ملائمة، وهو ما يفلح في تنفيذه، فيتكاثر النحل ويزداد العسل، ويتناقل أبناؤه وأحفاده من بعده حرفة تربية النحل، لتتجدد من بعدها عاطفته وأحاسيسه تجاه عائلته، فيعود للحياة من جديد. أما (جورج) فهو المزارع الذي يعيش في بداية الكارثة في أمريكا في الزمن الحاضر، نراه متمسكا بالطرق القديمة المتوارثة في بناء الخلايا باليد لتربية النحل. نتبعه في خيبة أخرى تنتابه حين أبدى ابنه (توم) حالة من عدم اكتراث بمهنة أبيه مؤثرا عليها فكرة الذهاب للكلية والحصول على درجة الدكتوراه، في وقت كانت تتراءى لجورج فكرة أن كل حشرة صغيرة لا بد أن تكون تابعة للخلية الأكبر، وهو ما يكون محط اهتمام الرواية التي تطرح مرارا سؤال علاقة الفرد بالجماعة من حوله.
ما يلفتك في هذه الرواية أن كارثة طبيعية تحل بالنحل على النحو الذي شرحنا وصراعا يجري من أجل الحفاظ عليه يحضران بالتوازي مع روابط وعلاقات تربط شخصيات الرواية بمحيطها العائلي الذي تعيش فيه، وهو ما تتعامل معه الرواية برمزية ذكية مستقاة من عالم النحل، كما حين تطرح فكرة أن في التضحية خلودا، أو كما قيل: «إن موت النحلة هو خلودها»، لأنها فعلت الذي وضعت على الأرض من أجله، لذلك فإن كانت النحلة تشعر بالسعادة وهي تدخل بوابات السماء بجناحين مهترئين، فلأنها «أنجزت قدرا لا نهاية له بالنظر إلى جسدها الضئيل». من هذا الباب يقول وليام: «بقيت جالسا، أنظر إلى النحل، إلى مثابرتها غدوا ورواحا»، ليدرك بعدها أن «أولئك الذين يشيخون وتنتفخ أبدانهم، وفي النهاية يذوون، من دون أن يتبقى أي أثر لهم من خلفهم، فإنهم هم التعساء». وفي هذا الاقتباس القيمي من عالم النحل إشارة واضحة تدفع باتجاه عدم مغادرة الدنيا من دون أن يفعل الكائن البشري ما يضمن له ما يبقيه حيا في ذاكرة من عرفه. والرواية ما فتئت تتمثل عالم النحل لتقول لقارئها:» إن المصلحة الذاتية وحدها يمكن أن تؤدي إلى كل من التدمير الشخصي والعام». لذلك فإن جورج الذي أراد بأنانيته أن يكون ابنه صورة عنه في حرفته يقول بكثير من الندم: «فقدت النحل ويبدو أنني فقدت توم أيضا قبل وقت طويل جدا، وكنت سميك الدماغ لأدرك ذلك».
نخلص إلى تأكيد ما ذهبنا إليه من أن رواية «حين اختفى النحل» الصادرة عن دار المنى عام 2017، أي بعد سنتين من النسخة الأصلية، بترجمة علاء الدين أبو زينة، تمثل أنموذجا جيدا لإبراز الكيفية التي تتعالق فيها البيئة مع المخيلة الأدبية على نحو بديع، ومن شأن قارئ هذه الرواية ملاحظة مجموعة العواقب الأخلاقية الناجمة عن انتهاك البيئة، بما يعيد إلى أذهاننا ما يشيع من أن العمل الفني هو استعارة مركزية عن الطبيعة، من شأنه تهيئتنا لاستعمال الطبيعة أدبيا ومجازيا، والعمل على استعادة هذه العلاقة المذهلة بين البشر والطبيعة. وهو ما تحققه الرواية حين تدفعنا للتفكر بسلوكيات أنانية قد تقود العالم نحو الهلاك إن فاتها أن أحلاما يفكر فيها أصحابها، ستفقد الكثير من معانيها، إن لم ينتفع بها الجميع. فمن شأن الروح المتضخمة بأناها كما يقول كونديرا ألا تشعر قط بالسعادة لأن لهيب أناها يهلكها.
٭ أكاديمية أردنية

«حين اختفى النحل» للنرويجية مايا لونده: النص الروائي والحساسية البيئية المعاصرة

رزان إبراهيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية