رغم المحاولات التي حصلت في عهدي كل من الملك إدريس السنوسي ومعمر القذافي، لم تنجح ليبيا في صناعة اقتصاد حقيقي بعيدا عن دائرة النفط والمحروقات رغم ما يزخر به البلد من إمكانيات كبيرة تجعله قادرا على المراهنة على عديد القطاعات. فكما أن مصر هي «هبة النيل» فإن ليبيا هي هبة البترول بامتياز، فهو أحد أهم أسباب وجودها في صيغتها الحالية، وهو أيضا سبب شقائها وحروبها وأطماع الآخرين فيها، وسيكون لاحقا أحد أسباب استقرارها، باعتبار الدور الذي سيلعبه في إعادة الإعمار وباعتبار حاجة القوى الكبرى الراغبة في اقتسامه إلى التهدئة للاستثمار فيه، وذلك بعد إتمام مخططها التدميري.
ولليبيا أهم احتياطي في القارة الافريقية من النفط سهل الاستخراج، وسهل التصدير أيضا، باعتبار قرب ليبيا من بلدان القارة العجوز، وذلك بخلاف بلدان عربية نفطية أخرى. وهو ما يفسر أطماع بلدان حلف الناتو المتاخمة لسواحل المتوسط في النفط الليبي ومسارعتها للتدخل في الأزمة الليبية الراهنة رغبة في نصيب من الكعكة التي سيتم اقتسامها أو أنها قد اقتسمت بعد.
انتعاشة في الإنتاج
ويشهد قطاع النفط في ليبيا انتعاشة حقيقية انعكست على الإنتاج الذي ارتفع بشكل لافت ليصل إلى مليون برميل يوميا لأول مرة منذ أربع سنوات. ويفسر ذلك بحسب جل الخبراء والمختصين في الشأن الاقتصادي في بلد عمر المختار بالحماية التي يحظى بها قطاع النفط من قبل خليفة حفتر بدعم دولي يرى في هذا القطاع خطا أحمر لا يجب المساس به أو إدخاله في دائرة التجاذبات السياسية بين مختلف الفرقاء الليبيين.
وكان هذا القطاع في السنوات الماضية سببا لمعارك كثيرة طاحنة اندلعت للسيطرة عليه. واشتركت في هذه المعارك حتى الميليشيات التكفيرية التي كانت لديها رغبة في الهيمنة على حقول النفط لتمويل أنشطتها التخريبية. لكن حفتر بالنهاية سيطر على الحقول والمصافي وافتكها من جماعة الجضران دون مقاومة وهو ما فسر يومها بوجود رغبة دولية أذعن لها إبراهيم الجضران ومن كانوا يسمون أنفسهم حرس المنشآت النفطية مكرهين.
ولعل السؤال الذي يطرح هل فعلا انتهى تنظيم «الدولة» من ليبيا بعد هزيمته في بنغازي بالتزامن مع الهزائم المسجلة في سوريا والعراق؟ وهل لحفتر القدرة على حماية هذه المنشآت النفطية من هجمات انتقامية لهذه الجماعات التي عرف عنها استهدافها للقطاعات الحيوية في اقتصاديات البلدان المستهدفة؟ وهل ستعتبر القوى الخارجية المتدخلة في الأزمة الليبية فعلا قطاع النفط خطا أحمر أم أنها قد تستهدفه للضغط على هذا الطرف أو ذاك في أي تفاهمات مقبلة؟
ولعل المتضرر الأكبر من ارتفاع إنتاج النفط الليبي، هي بلدان منظمة أوبك التي قررت منذ فترة التخفيض في الإنتاج ليرتفع سعر النفط بعد أن تضررت اقتصادياتها. ولعل في استثناء ليبيا ونيجيريا من قرار التخفيض في الإنتاج الذي اتخذه أعضاء أوبك تفهما للوضع الاستثنائي الذي تمر به ليبيا والذي يجعل الجهات الرسمية الخاضعة لأكثر من طرف، مطالبة بتوفير الحاجيات الإنسانية في بلد خمسة وتســــعون في المئة من مداخيله متأتية من قطاع النفط.
ومن المتوقع أن يرتفع إنتاج النفط الليبي أكثر ويغرق الأسواق العالمية خاصة مع عودة الشركات البريطانية والألمانية إلى العمل والتزامها بصيانة وإعادة تأهيل الحقول المغلقة. ولعل في هذه العودة مؤشر على حالة من الاستقرار ستشهدها ليبيا خلال المرحلة المقبلة باعتبار أن هذه الشركات لا تتخذ مثل هكذا قرارات دون ضوء أخضر من حكوماتها التي تمدها أجهزتها الأمنية والاستخباراتية بالمعطيات اللازمة.
توحيد المؤسسة النفطية
ولعل العمل الدؤوب الذي يقوم به البرلمان الليبي في طبرق لتوحيد المؤسسة النفطية الليبية بعد تشكيل لجنة للغرض، هو مؤشر إضافي على سير الأوضاع في ليبيا نحو الهدوء والاستقرار وإن بخطوات بطيئة. فسيطرة حفتر على بنغازي وتموقع السراج في طرابلس ومحاولته مد نفوذه فيها بالتدريج بمساعدة أطراف أممية وأطلسية، يرى فيه البعض عاملا إيجابيا يمكن مع الوقت من حصر السلطة بيد طرفين لا أطراف متعددة الأمر الذي يسهل عملية المصالحة والتفاهمات التي لا مفر منها في النهاية والتي أكدتها تجارب الحروب الأهلية في جميع أصقاع العالم.
ولا يخفى على عاقل أن توفير الحاجيات الأساسية لعموم المواطنين الليبيين يساهم في تحقيق الاستقرار المنشود وهو ما تدركه حكومة الوفاق التي يرأسها السراج، وتدرك أيضا أن النفط وحده من يلبي حاجيات المواطنين ويحقق لهم الرفاه الاجتماعي. وبالتالي لا مفـــر للسراج وجماعته من التعجيل بالتـــفــاهم مع حفـــتــر الذي يمتــلك ورقة النفط رغم أنه ليس ســيــد نفـــسه بالنــهاية ولا باقي الفرقاء الليبيين هم أسياد أنفسهم ولا أيضا بلدان محيطهم الإقليمي.
ولعل السؤال الذي يطرح هل سيتمكن الليبيون من إيجاد ما يكفي من ريع بترولهم لإعادة الإعمار والنهوض بحياة المواطن الليبي بعد اجتزاء نصيب البلدان التي ساهمت في الإطاحة بالقذافي والبلدان التي رعت الحوار الذي تمخض في النهاية عن اتفاق غير قابل للتطبيق؟ وهل أن البلدان التي أشرفت على تدريب قواتهم والتي زودت ميليشياتهم بالسلاح وصنعت منهم سوقا لترويج بضائعها وغيرها، مستعدة للخروج بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها وترك الشعب الليبي ينعم بثرواته البترولية؟
ماجد البرهومي