من العيادة النفسية تُنسج أولى خيوط الرواية، وهذا مؤشر مهم جدا، فالسوريون لكثرة ما قاسوا وآسوا من أهوال ومصائب بات قسم منهم يرى الإنسان المعقد هو الشخص السويّ، لأنه تفاعل سلبا أو إيجابا مع الأحداث المندلعة حوله، بينما الإنسان السليم في هذه الأيام هو المعقد أو الغير طبيعي لأنه كجلمود صخر لم يتأثر بكل ما حصل ويحصل.
جذور الخوف
«الخائفون» هو اسم الرواية التي كتبتها ديمة ونوس ورُشحت للقائمة الطويلة لجائزة بوكر الشهيرة، وهي تتكلم عن الخوف الذي عمل نظام البعث على زرعه في نفوس الناس، كآلية فعالة لبقائه، والناس تحافظ كذلك على الخوف في داخلها لا إراديا كتكنيك للبقاء، فالكل يخاف من الكل. الرئيس من المرؤوس والعلوي من السني والغني من الفقير والريفي من المديني، والعكس صحيح. خوف يربي النظام الأطفال عليه منذ نعومة أظفارهم من خلال سلطة العرّيف الذي يكتب أسماء الطلاب الذين لا يلتزمون بالقوانين داخل الصف على دفتر خاص حتى تتم معاقبتهم: « وليس الدفتر سوى تمرين على الوشاية وكتابة التقارير المدرسية بالزميلات، وإثارة الشكوك بينهن حول مصدر الوشاية وتهريب الأسرار.. معظم الطالبات كنّ تواقات للعب دور العريفة».
شخوص بطلها الخوف
ثلاثة أبطال رئيسيون تتمحور حولهم الرواية، يجمعهم الخوف ويرافقهم، بل ينسكب من عيونهم في بعض الأحيان. إذا فالخوف هو الحاضر الوحيد في كل مشاهد الرواية ترافقه حبوب الكزانكس المهدئة.
سليمى الرسامة الحموية التي هرب أبوها الطبيب الخائف من حماة رفقة العائلة عندما كان عمرها خمس سنين، ليموت في دمشق من الخوف، حسبما قالت زوجته، كانت منذ طفولتها تتخيل عائلتها واقعة تحت التعذيب من أناس يتلذذون بذلك، وتتخيل أباها راكعا يقبل رجل ضابط في صفوف النظام، وهو فعل يتم في كل لحظة في سوريا الأسد، كما تقول الرواية.
بل حتى إن مدربة الفتوة استدعتها لتسألها كونها حموية ماذا قال لها أبوها عن الأحداث فأجابت بخوف: إن الأب القائد لوث يديه في الدم عن كل الشعب السوري! لكن ردة فعل المحققة لم تكن إيجابا ولا سلبا، ما جعل الطفلة تحرم النوم نتيجة الخوف لعدة أيام، فانتظار الخوف أصعب من الخوف ذاته.. السجن أسهل من الخوف منه، على ما جاء في السرد الروائي.
البطل الثاني اسمه نسيم التقته سليمى في العيادة النفسية وأحبته، وهو طبيب جميل بارز العضلات ناتئ العظام، يكتب الروايات باسم مستعار، دون أن تسأله إن كان فكرفي صاحب دار النشر الذي قد يستدعى إلى التحقيق ليعترف بهوية الكاتب: « لم أسأله خفت من الخوف، خفت أن أخيفه».
البطل الثالث هي سلمى، وهي التي تتكلم عنها مخطوطة نسيم التي أعطاها لسليمى تحت اسم أوراق نسيم، وسلمى هنا هي ابنه الكاتب المسرحي الشهير سعد الله ونوس، وتدور أحداث الرواية حول السنوات الأخيرة لونوس بعد إصابته بمرض السرطان. وكأنها رواية داخل رواية، وهنا يدخل الخيالي بالحقيقي، والسيرة الذاتية بالسرد الروائي، لنتعرف أكثر على البيئة التي ولد فيها الكاتب بجبال الساحل، وأهله وأقاربه، وكيف ينظرون للآخر المختلف عنهم، خصوصا بعد قيام الثورة، حيث تمنت إحدى قريبات سلمى المثقفات أن يغتصبوا الأخيرة، بسبب تأييدها للثورة، أو يذبحوها أمام ناظر أمها كي تعيش حياتها معذبة: «الرحم السني اللي حملك يبلاه بالسرطان» !، وتربط بين هذا الكلام بكم الإجرام الكبير لدى الشبيحة: «صرت أفهم كيف يقتلون الناس ويعذبونهم، ويستلذون.. إنهم لا يرون بين أيديهم المتوحشة أجسادا بل نطفا قذرة يجب سحقها» !.
لهجة أساسية لإثارة الخوف
في بلد كسوريا الأسد يكفي أن يتكلم المرء باللهجة العلوية حتى تكون تلك اللكنة جواز دعسه على كل القوانين، فهو مدعوم وخارج كل السلطات: « إنها هوية السلطة المطلقة وهوية الظالم والمتجبر.. هوية الرعب والهلع والمجهول». تهرب سلمى ـ وهي على الأغلب بنت الكاتب سعد الله ونوس- إلى لبنان، وفي نقطة التفتيش الحدودية يستدعيها الأمن ثم يسألها عن والدها المتوفى منذ خمس عشرة سنة، فهو مطلوب للاعتقال لأنه كان يكتب ضد نظام البعث ! تتداخل أحداث الرواية كما شخوصها، حتى يضيع القارئ في بعض الأحيان بين سليمى وسلمى، كما أن نسيم هو ذاته الطبيب سفيان الذي رافق سعد الله ونوس وزوجته في آخر لحظات حياته، وهو الذي أخبر الزوجة أن زوجها «راح»، وبالتالي كتب عن العائلة تلك الرواية غير المنتهية، قبل أن يهرب إلى ألمانيا مصطحبا والده الذي فقد عقله.
النهاية المفتوحة
سليمى التي أخذت المخطوط من نسيم تضرب موعدا مع سلمى ابنة الكاتـــــب في بيــــروت كي تكتب خاتمة للروايــــة، وبالفعل ذهبت إلى لبنان، بل إلى مكان المقابــلة، لكنها أي سليمى تهرب في اللحظات الأخيرة، وتعود إلى الشام حيث حلمت بأمها داخل الحمام، وخرطوم الماء من اللحم الأحمر الطازج الذي ينزّ من شدة طزاجته، لتفيق مذعورة، بينما تجد أمها تحتسي القهوة، وتدعوها لمشاركتها ذلك. في نهاية سيريالية في هذا الجانب، ومفتوحة في أوراق نسيم، حيث لم تنته الرواية. تماما كذلك البلد الذي حكمته سيكولوجيا الخوف، فدائما نهايته مفتوحة تكون فيها الأشلاء والدماء حاضرة على شكل خرطوم ينز دما.
٭ كاتب سوري
مصطفى عباس