إن بناء النص الروائي يحتاج إلى حبكات فرعية تتقاطع مع الحبكة الرئيسة وتدعم الهيكل البنائي للرواية، الذي يُمثل العمودَ الفقري. وهذا التداخل والتجاور والتناغم يُعطينا شكل بناء معزوفة موسيقية تتجاور فيها الإيقاعات والنغمات وتتناسب لتوافق اللّحن العام، الذي يمثل الشكل الأساس للنص الموسيقي.
وفي «معزوفة لرقصة حمراء» يكون النص هو المعزوفة بكل تمثلاتها وسرود شخصياتها التي تغذي الحدث الرئيس، كما أن تعدداتها الصوتية تؤلف نغمات تتجاور في الوقت نفسه، أو ما يُصطلح عليه في عالم الموسيقى بالبوليفونية… ويظل العنوان مصرا على عدم استسلامه حين نكمل قراءته «لرقصة حمراء»، فنستعين بقول السارد: «ها أنت تبدأ الرقص وها هي موسيقى اليأس والضعف المقيت تسحبك إلى حلبة الرقص». كما أعتقد أن حلبة الرقص تمثلت في مساحة داخل المثلث الأحمر: السلطة والأخلاق والحب «ولعله مثلثنا كلنا في النهاية». وبهذا يظهر أن الرقص لم يكن إلا حركة استعارية تُحيل إلى وجود نوع من التدافع، ثم انتفاض على ألم وجعِ واقع بائس ومهيض تعيشه الشخوص في ما يشبه التجاذب والتصارع بين ثلاثة أقطاب متوهجة (السلطة/الأخلاق/ الحب). وليس كل رقص طربا، قد «يرقص الطير المذبوح من الألم» كما قال المتنبي.
الرقصة الحمراء
تظهر الرواية على أنها ذات طابع مأساوي، لدرجة أنها تبدو سوداوية في بعض فصولها، أو تتجه نحو ما يشبه العبثية واللاجدوى، ومن بين القرائن التي تدعم هذا، نقرأ فيها حديث حمان: «هو وجع مدمر لا يؤدي إلا إلى رغبة كاسحة في تدمير الذات، وإتلاف كل معايير الحياة الشخصية وقيمها الخاصة، وجع يجرك إلى عبثية قاتلة وألم عميق اسمه الضياع». وكمثل حالة الخمالي التي انتهت بالانتحار.. إلا أن الإطار العام يتجه أو يُوَجِّه القارئ – كلما توغل في القراءة – نحو انفراج مفترض، خاصة في ما قبل النهاية، حيث تتضح الرؤية أكثر، إذ تنتفض الشخصيات التي كانت تعيش الضياع والاغتراب، فاستطاعت أن تتخلص من المكبلات والقيود النفسية والمعنوية وتستعيد ثقتها بنفسها.
وبهذا اعتمدت المعزوفة على تشريح نفسية الشباب المغربي بشكل يعكس بنية تفكيرهم القائمة على النزوع إلى التغيير وابتغاء رؤيةِ وطن يتقبل أحلامهم ومواقفهم وطموحاتهم، مبني على أسس العدالة والانفتاح والديمقراطية وتقبل الآخر، إذ أن الشخصيات الشابة كانت تعيش في بوتقة مأزومة، تتداخل فيها الظروف الاجتماعية والسياسية لتولد سياقات مختلفة تتحكم في مصائرها (أي الشخصيات)، ورغم اختلاف توجهاتها وأيديولوجياتها فقد كانت تتشارك في همها الأوحد الذي هو حب وطنٍ يريد أن يستردَّ أمله، عبر احتضان أبنائه كي تُحلق أحلامُهم التي كانت معلقة في برزخ مجهول.
ومن الملاحظ أن هذه الشخصيات منذ البداية تعيش ما يُشبه الفقد، افتقاد الحرية، فحمان مكبل بقيود منذ خروجه من السجن ـ الذي دخله ظلما- إلى أن تزوج نعيمة بنت الكولونيل الشريف عمر.. إلى أن صار قائدا، فهو يعتبر أن إخراجه من السجن وتزويجه من نعيمة ومنصبه صفقة، كانت حريته وكرامته ثمنا لها، كما أنه اعترف لنفسه قائلا: «أما نعيمة، فكانت ثقلا حزينا أنوء به في صمت وخضوع، وأتساءل دوما كيف الخروج من النفق بأقل خسائر ممكنة؟. فتظهر شخصية نعيمة رمزا لذلك القيد الذي التفّ حول عنق حمان. ثم بسبب تصرفاتها وتدلُلِها وجنونها ونشوزها.. صارت حياتُه معها مستحيلة، لهذا فهي تمثل أحدَ تلك القيود التي عانى منها، مثلها مثل منصب القائد الذي شغله، والذي قيّد بدوره حريته وتفكيره. وبهذا كانت أسماء شخصية ترمز إلى التحرر الذي يتوق إليه حمان، فهي الفتاة التي استطاعت بحبها أن تجعله يفكر في التحرر من سلطة الركون إلى الذلة، وتعيد فيه حمان الإنسان، كما كان حرا، وتساعده كي ينتصر لحمان البسيط الذي عاش محنة الاغتراب، وظل يرقص كطير مذبوح بين تناقضات نفسه وحالة الانفصام التي استولت عليه، في خضم الصراع النفسي بين الحمانين، إلى أن حان موعد التحول الذي ساهمت فيه عدة ظروف جعلته يُراجع جميع حساباته، يقول: «كنت أنتظر لحظة الانطلاق والتحول، لكنني لم أكن أعتقد أن تأتي عاصفةً جارفةً كهذه». كان يرى في أسماء الحب والمستقبل الجميل.. الذي لم يستطع أن يحققه مع محبوبته الأولى (نبيلة) التي قُتلت.
زج بحمان في حلبة الرقص مع السلطة، ثم أفضى به هذا المصير في النهاية إلى الدرب نفسه الذي سلكه صديقه مراد (الشخصية الغائبة الحاضرة رمز القيم الدينية والصوفية العميقة)، لكن الفرق كان يتجلى في مسألة الإرادة والاختيار، فمراد سلك طريقه بقناعة وإيمان ووعي، أما حمان فكان يسير مسلوب الإرادة وليس لديه حق الاختيار والقرار، وذلك يظهر منذ الصفقة الأولى ومنذ أول لقاء مع خاله الخمالي.. لكن المسار أفضى به في الأخير إلى التصالح مع ذاته، واستعادة ثقته بنفسه وبربه.
أما خاله الخمالي فقد أنهى حياته بنفسه في مشهد تراجيدي، أقبل على الانتحار بعد صراع عنيف مع ذاته ونفسه باستحضار لمحات من معاناته وجراحاته، وبعد يقظة متأخرة أدرك فيها أنه عاش حياة الذل في خدمة الشريف عمر.
مريم هي بدورها تحررت من سلطة الأخضر الذي يريد أن يفرض عليها الاتجار في الأسلحة وتوريطها في عملية إرهابية ضد بلدها، فهروبها منه وعودتها إلى الرباط، فيه ما يدل على كسر القيود التي تربطها بالأخضر وبماضيها الإجرامي في شبكة لتهريب الحشيش، بهذا فإن تحررها يعكس أيضا صحوة الضمير بقيامها بالتبليغ عن العملية الإرهابية التي تتربص بالوطن.
بنية التعدد، وإنتاج السؤال
ونهج الروائي في المعزوفة، نهج الرواية الحداثية على مستوى تعدد الأصوات، فكل شخصية تعبر عن قناعتها ورؤيتها الخاصة ووجهات نظرها، وقد برز هذا من خلال تعدد السرد والمنظورات السردية والرؤى السردية المختلفة، أو بحسب جيرار جنيت مستويات التبئير المتداخلة ومنح كل شخصية حقها في التعبير عن ذاتها ونفسيتها وتناقضاتها وأزماتها وطرق تفكيرها ومواقفها اتجاه المجتمع والسياسة والسلطة والحب، دون تدخل من الكاتب الذي أعطى لها حرية نسبية على اعتبار أن الحرية المطلقة لا تجوز، لأن المؤلف هو في حد ذاته من تخيل تلك الشخوص. وعليه، حقَّ أن نعتبر المعزوفة رواية بوليفونية، قائمة على مبدأ الحوار. لهذا فهي تجمع كل الأفكار والرؤى المختلفة والمتصارعة والمتناقضة، فهناك اليساري والإسلامي واللامنتمي، وممثل السلطة والصحافة، الجندي البسيط.. كل له وعيه الخاص وقناعته وأخلاقياته، وزاوية قراءته للعالم. ورغم هذا الاختلاف والتنوع فالإطار العام يوحِّد شخصياتها الفاعلة القابلة للتغيير والمقبلة عليه (حمان/أسماء/نجوى معروف/مريم)، ويضعها أمام سؤال الأخلاق والقيم.. كما يجمعها هاجس المستقبل والآتي، ومآل أحلامها التي واجهتها صخور الواقع الصلد.
وتخللت الروايةَ أجناسٌ تعبيرية متعددة، مثل مقاطع صغيرة لأغنية شعبية، وقصاصات الصحافة وحوارات أو نقاشات عبر الإعلام واستجوابات صحافية، ونصوص من الشعر والخطبة والخواطر أو رسائل كالتي سماها الكاتب «نصوص فيسبوكية في العشق». كل هذا التفاعل لهذه الأجناس الأدبية منها والإعلامية والفنية ساهم في بناء النص الروائي لـ«معزوفة لرقصة حمراء».
وهذه الديمقراطية الموزعة داخل النص والمتمثلة كما أشرت آنفا في تعدد السرّاد، وزوايا النظر والأيديولوجيات والأفكار والثقافة، والمستويات المعرفية وتعدد الأجناس التعبيرية وتنوع الخطابات.. كأنما يطرح الكاتب من خلالها سؤالا جوهريا مضمرا بين السياق، ألا يمكن أن تكون في مجتمعنا تعددية إيجابية وحقيقية تهدف إلى فكرة واعية، وهمّ مشترك يُوحد المتفرقين ويقرب المتباعدين ويبث روح التعاون بين المختلفين؟ ألا يمكن أن يكون حب الوطن والسعي إلى الحفاظ عليه بالتوسل إلى سُبل التغيير الإيجابية دون إقصاء ولا طغيان اتجاه على آخر، ودون تحايل على المعايير الأخلاقية التي أوجدتها القيم الإنسانية.. ألا يمكن؟
أعتقد أننا أمام طرح عصي تتناسل منه الأسئلة لتنصهر في النهاية فيما سيسمى بسؤال الرواية.
– معزوفة لرقصة حمراء، رواية، منشورات رونق، 2016.
٭ كاتب مغربي
رشيد أمديون