سفر شاعري إلى برلين بالأبيض والأسود ورصد لقضايا المهاجرين

يعد فيلم«ما وراء الكلمات» للمخرجة البولندية أورزولا أنتونياك رابع شريط طويل في مسارها الإبداعي الذي يمتح من التجربة الشخصية التي تعيشها المخرجة،كمهاجرة بهولندا، حيث تجعل من مواضيع الهجرة والتعدد الثقافي والجسد،عناصر أساسية،تحاول ملامستها منذ أعمالها السابقة:«لا شيء شخصي»(2009)،«رمز أزرق»(2011)و«منطقة عارية»(2014).

«ما وراء الكلمات»حكاية

يروي فيلم «ما وراء الكلمات»قصة ميكائيل،شاب من أصول بولندية،يعيش في برلين ويتصرف على أنه ألماني يساعده في ذلك شكله ومظهره الخارجي..ويعمل في مكتب للمحاماة حيث تسند إليه قضايا مرتبطة بالأجانب واللاجئين.
تربط ميكائيل(ياكوب جيرزال)علاقة صداقة وعمل مع فرانز(كريستيان لوبر)،رئيسه في الشغل، ويبدو أنهما منسجمان إلى حد لا يمكن التمييز بين أصولهما..ويستمتعان بقضاء لحظات جميلة في حانات ومراقض ودور الأزياء..
ولايذخر ميكائيل أي جهد في النطق السليم للغة الألمانية ليظهرتماما كواحد من أبناء البلد…لكن حياته تبدأ في التعقيد بعد حضور مفاجئ لرجل بوهيمي يدعى ستانيسلاف(أندرزج شيرا)،لم يسبق له أن رآه،يقدم نفسه بأنه الوالد..ليقضي معه عطلة نهاية الأسبوع حيث يضطر الابن إلى طرح مجموعة من الأسئلة على نفسه التي تذكره بأصوله البولوندية والتي لا يرغب في تذكرها.

الهجرة والاغتراب

يطرح الفيلم مسألة الهجرة والاغتراب حيث تنقلنا المخرجة،انطلاقا من تتبع مسار شخصيات فيلمها، الى العالم الفسيح الذي يميز هذه المدينة الأوروبية.
فشخصية ميكائيل الذي يبدو واثقا من نفسه وغير معني بنقاش الهوية لكونه قدم إلى ألمانيا بعد رحيل أمه وهو مازال يافعا …وساهم اتقانه للغة ونجاحه الدراسي في انذماجه السريع في المجتمع الجديد بل ومساعدته في نسيان أصوله البولندية.
كما أنه لا يرغب أن يتم توصيفه أو النظر إليه كمهاجر مثل الآخرين ذوي البشرة السوداء باعتبار أن وظيفته الأساسية كمحام مرتبطة بالدفاع عن المهاجرين واللاجئين رغم رفض رئيسه في العمل توكيله ملف أحد اللاجئين بدعوى أن جهات ألمانيه تريد الدفاع عنه…وهنا إقرار بوجود تمايزفي تبني ملفات اللاجئين أنفسهم قبل أن يتم تذكيره على لسان فرانز«لا تنس أنت الآخرأنك لست ألمانيا»
غير أن لحظة قدوم الأب المفاجئة ،الذي يشكل الذاكرة والأصل،سيجعل من ميكائيل يعيد طرح أسئلة على نفسه أحيت صراعا داخليا،ظن أنه انتهى،سرعان ما طفا على السطح..ليكدر صفو انسجام يعكسه إصرار ه على التجاهل المصطنع بل ويقوده في بعض الأحيان إلى تحريف الترجمة وقول ما يراه يخدم مصلحته.
كما يحاول الشاب أن يظهر للأب بأنه منذمج كليا،عندما يشرع في تلقينه أسماء لأدوات منزلية واستعراض تمكنه من اللغة الألمانية والمكانة التي يحظى بها في المجتمع..
وترصدأورزولا أنتونياك،مخرجة الفيلم وكاتبة السيناريو،من خلال إحدى المشاهد شبه الحلقية والتي تجمع في لقاء ثلاثي كلا من ميكاييل والأب وفتاة بولندية ..و يتداخل فيها صراع مستمر بين ضجيج الموسيقى الإلكترونية والألمانية والصمت والمحادثة باللغة البولندية ،حيث يظهر حائط زجاجي في إحدى الحانات كشريط حدودي يحمل في طياته بعدا مجازيا بين عالمين..
وللتخلص من الثقل الذي بدأ يخيم على نفسيته رأى ميكائيل أن الحل الأنسب يتمثل في أن ينزل ميشا إلى عالم تحت أرضي حيث تواجهه الحياة بما لم يكن منتظرا وتجعله يرى يقظا أسو ء كابوس بعد أن وجد نفسه محاصرا في عالم هامشي وغير مرئي تدب فيه حياة المشردين والمهاجرين ذوي البشرة السودا ء كملاذ آمن لهم من تشريع العالم الفوقي الذي لا يرحم..

ما وراء الصورة

يعلن الفيلم منذ البداية على نفس شاعري عميق حيث يجعل مجال الصورة يفيض بأحاسيس تغمر شخصيات الفيلم وفضاءات التصوير والتي نجح الوضوح المنبعث من ثنائية الأبيض والأسود في إيصالها للمشاهد.
فالكلمات الشعرية الغارقة في الأحاسيس التي يتلوها أحد اللاجئين في بداية الفيلم «يوجد بلد أنتمي إليه، إنه الطفولة حيث هناك أشخاص لازالو يحبونني» ساهمت في رسم الملامح الكبرى لأحداث الفيلم و ورصد الصراع الداخلي والنفسي الذي يعيشه بطل الفيلم..
كما أعلنت عن اغتراب كامن استطاع اللاجيء أن يعبر عنه بشعرية باذخة فيما ظل بطل الفيلم،الذي هاجر منذ طفولته،يداريه إلى غاية لحظة قدوم الأب الذي واجهه بالسؤال الحارق «وماذا عن الألمان هل يقبلونك؟»يجيب الابن بمراوغة «إنهم لا يتجاهلونني»ويمعن الأب في الإحراج دون انتظار الجواب«وهل هذا كاف بالنسبة لك؟.»
فيلم «بيوند ووردس»هادئ بإيقاع بطيءأحيانا في ظاهره،لكنه يحمل إيقاعا داخليا حركيا يعكس توتر شخصياته، يسافر بنا إلى عوالم برلين المتعددة الأعراق والثقافات لنتعرف على شوارعها وأزقتها وعمارتها وحياة الناس فيها.
كما يسلط الضؤ على عوالم مدينة عملاقة والتي تعج بأنماط عيش متباينة مثل أنشطة بعض ممارسي رياضة اليوغا وهم عراة فوق أسطح العمارات حيث الاحتفال بجسد يلامس السحاب وأجساد تمارس الإدمان في عالم تحتي أرضي.

الأبيض والأسود

تسافر بنا الكاميرا عبر الأبيض والأسود كاختيار جمالي شكل تحديا للطاقم الفني للفيلم لدخول مغامرة سينمائية في زمن تم الاعتقاد فيه بأن زمن الأبيض والأسود قد ولى إلى غير رجعة.
ويمكن اعتبار أن توظيف الأبيض والأسود ليس حنينا للماضي وحسب بل هو استجابة فنية لإبراز عالمين مختلفين من الوافدين على العاصمة الألمانية والذين تحمل أجسادهم لونا مميزا يدل على أصول كل فرد منهم.
وأعتقد أن اختيارالأبيض والأسود يعود أيضا إلى لفت الانتباه إلى تعدد الإشكالات التي تود من خلالها مخرجة الفيلم بسطها للمشاهد والتي تضم طبقات متعددة تمثل ما هو اجتماعي وثقافي وهندسي لمدينة عملاقة في حجم برلين التي ترمز إلى كل المدن ذات التنوع العرقي والثقافي..
وما يمنح للفيلم قوته تلك المغامرة التي تفوق فيها بشكل كبير مدير تصوير،لينيرهيليج،حيث أبان على أن تغيير مجال المتفرج المتعود على صورالألوان ليس من باب المستحيل بل جعل من فضا ء برلين الهندسي مجالا مفتوحا اقتحمته الكاميرا دون تردد وقدمته تماما كما أنه لم يشاهد من قبل.

التشخيص بالأبيض والأسود

في سؤال وجهته لبطلي الفيلم حول الرؤية الشخصية لصورتهما في الفيلم بالأبيض والأسود،أجاب الممثل البولندي أندرزج شيرا«لم يسبق لي أن اشتغلت في فيلم بالأبيض والأسود من قبل وبمعنى آخر يمكن اعتباره شيئا مثيرا وجديدا في نفس الوقت. »
وأضاف أندرزج شيرا(53عاما) «بالفعل يرجعنا ذلك إلى الماضي عندما كنا نشاهد الأفلام بالأبيض والأسود في خمسينات وستينات القرن الماضي حيث كان كل شيء أكثر وضوحا..»
ومقارنة مع أفلام الألوان،لاحظ شيرا«أحيانا نكون تائهين كليا حيث لا نعرف ما الذي نود رؤيته سواء تعلق الأمر بالشخصيات أوالهندسة أوالمناظر.»
وتابع أندرزج «أعتقد أن أفلام الأبيض والأسود يدفعنا إلى المشاهدة والملاحظة الدقيقة للشخصيات وتطور أدائها إنه شيء أكثر ذكاء».
أما ياكوب جيرزال(29سنة)فقد أكد قائلا:« شاهدت الفيلم اليوم لأول مرة وأعتقد أن المسألة لا تتعلق بكيف ترى نفسك كممثل بل المسألة تتعلق بكيفية ورؤية المخرجة ومدير التصوير لما قدمته ولا أظن أن ذلك يمت بصلة لعملي كممثل»

سفر شاعري إلى برلين بالأبيض والأسود ورصد لقضايا المهاجرين
فيلم «ما وراء الكلمات» للمخرجة البولندية أورزولا أنتونياك
خالد الكطابي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية