أهم ما في كتاب الصحافي والكاتب اللبناني المخضرم سليمان الفرزلي «حروب الناصرية والبعث» الصادر مؤخراً، نظرته الواقعية لنظام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ونقده الموضوعي لفكرة الاعتماد المبالغ فيه على القائد «البطل المنقذ» الذي لا يخطئ ورفعه إلى موقع شبه الإله المدرك لكل الأمور برغم أخطاء قد يرتكبها.
يركز الفرزلي، الذي ترأس تحرير صحفاً عربية بارزة، معظمها مؤيد لحزب البعث العربي الاشتراكي، قبل ان ينضم في المراحل الأخيرة من حياته المهنية إلى مجلتي «الصياد» و»الحوادث» في مناصب فاعلة، على الأخطاء التي ارتكبها عبد الناصر وأعوانه في الاعتماد المفرط على طروحات قُدمت إلى نظامه من جانب القيادة الأمريكية السياسية بعد خسارته حرب الأيام الستة عام 1967، واعتقاده ان هذه الطروحات تُقدم عن حسن نية.
وفي الوقت عينه، لم يغض الفرزلي الطرف عن رفاقه السابقين في حزب البعث العربي الاشتراكي في انتقاداته، وعلى رأسهم مؤسس الحزب ميشال عفلق وبعض كبار أعوانه، وخصوصا في تعاملهم مع عبد الناصر. ولكنه، وفي أكثر من مكان في الكتاب، شن حملة قوية ضد الصحافي المصري البارز محمد حسنين هيكل، أحد كبار أعوان عبد الناصر موجهاً إليه شتى الاتهامات ومنها الترويج لسياسات ناصر على حساب حزب البعث.
يتحدث الفرزلي في الفصل الثالث من الكتاب بعنوان «أتباع لا شركاء» عن الموقف الأمريكي تجاه عبد الناصر والوحدة العربية، والأنظمة العربية في العقود التالية بعد مرحلة عبد الناصر وحتى الساعة.
ويقول: «ليس دقيقاً القول ان الولايات المتحدة كانت تقف ضد الوحدة العربية بشكل مطلق إذ أنها كانت تفضل نوعاً من الوحدة المحدودة بمعنى ان لا تكون معادية لإسرائيل وان تكون قابلة للاحتواء فلا تخرج عن الحدود المقبولة الكفيلة بعدم احداث اهتزازات كبرى وارتدادات بعيدة في منطقة حساسة مثل منطقة الشرق الأوسط. كان ذلك في صلب «مبدأ ايزنهاور» في اواسط الخمسينات تحسباً لمضاعفات الموجة الوحدوية العارمة التي انطلقت في سوريا باتجاه مصر.. إن معظم التجارب الوحدوية المحدودة والقابلة للاحتواء كانت تحظى بدعم الولايات المتحدة ومنها ما كانت تشجعه وتدفع باتجاهه مثل وحدة ليبيا التي كانت مجزأة إلى ثلاثة اقاليم (بنغازي، طرابلس، فزان) ولو ان دافعها إلى ذلك كان المصالح النفطية». فالرئيس الأمريكي ايزنهاور ووزير خارجيته جون فوستر داللس، حسب المؤلف، لم يقبلا اصلاً بالحياد الايجابي المصري العربي واعتبرا معتنقيه اعداء لأمريكا. وقد أربك هذا الخلط بين المبادئ الاخلاقية والجيوبوليتيكية بقيادتهما دولاً كثيرة وفي مقدمتها الدول العربية، حسب الفرزلي. وبالتالي فان هذا «الغموض الخلاق» انتقل، بنظر المؤلف، إلى مبدأ «الفوضى الخلاقة» التي اطلقتها نظيرة داللس (بعد نصف قرن) كوندوليزا رايس بهدف تشكيل شرق أوسط جديد.
وبالتالي، يعتقد المؤلف أن العلاقة التي تصوّرها عبد الناصر مع أمريكا كانت ملتبسة عليه فكرياً وعملياً. ففي البداية، كان الهدف من التعاون المصري ـ الأمريكي ضبط أي ثورة اجتماعية حقيقية ولكن عبد الناصر لم يقتنع به كلياً ولم يجد له أي تأييد في الرأي العام المصري.
ويستشهد بقول لصلاح نصر، مدير مخابرات عبد الناصر، بان عبد الناصر اخفق في تصوره لأمريكا، بمعنى ان صورة أمريكا في ذهنه لم تكن واقعية. فهو كان يتصور انها ما زالت تعيش بمبادئ الماضي، حسب مواصفات ثورة الرئيس الأمريكي الثامن والعشرين وودرو ويلسون، التي شاعت بعد الحرب العالمية الأولى، وان أمريكا دولة تقدمية حضارياً وقوية وبلا أطماع استعمارية، لكنه عاد واكتشف بالتجربة ان الأمر ليس كذلك عندما تضاربت سياساته مع مصالحها.
ومن الأمور اللافتة في هذا الكتاب الشواهد والأسانيد التي أدرجها المؤلف في نهاية كل فصل.
ففي الفصل الثالث الذي ربما هو الأهم في الكتاب، نجد في جزء الشواهد (ص84) تحت رقمي 10 أو 11 مقطعين هامين يقول أولهما: «كشف عضو مجلس قيادة الثورة السابق خالد محي الدين في مقابلة تلفزيونية أجرتها معه محطة «الجزيرة» في 2 آذار/مارس 2011 انه انتسب هو وجمال عبد الناصر إلى التنظيم السري لـ»الإخوان المسلمين» في عام 1943، وحلفا اليمين على القرآن أمام رئيس التنظيم».
ويضيف: «وهناك من يقول أن انتساب عبد الناصر إلى الإخوان سابق لهذا التاريخ ويعود إلى عام 1940». ويقول محي الدين في المقابلة ان «مشروع الانقلاب العسكري ضد النظام الملكي هو في الأصل مشروع المرشد الأول للجماعة حسن البنا.. وان عبد الناصر اجتمع بالبنا أكثر من مرة». وفي الاسناد الثاني ينسب الكاتب قولا للقيادي الإخواني سيد قطب يقول فيه: «أعمل أكثر من اثنتي عشرة ساعة يوميا تقريبا مع رجال الثورة (المصرية) ومن يحيط بهم».
وسبب خلاف عبد الناصر والبعثيين في سوريا، حسب الكاتب، كان ان ميشال عفلق، مؤسس حزب البعث لم يكن راضياً عن سير الأمور في دولة الوحدة، وان حكم عبد الحميد السراج في دمشق باسم جمال عبد الناصر استهدف البعثيين وأقام في سوريا حكماً بوليسياٍ كان من شأنه ان يؤدي إلى كارثة. فيما اتهم عبد الناصر قادة البعث الثلاثة ميشال عفلق واكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار بانهم يريدون التفرد بحكم سوريا ويؤثرون المصلحة الحزبية على العامة.
وفي تفسير قدمه محمد حسنين هيكل في مقالاته في صحيفة «الأهرام» بعد ستين يوما على رحيل عبد الناصر عن أسباب خلاف ناصر مع قيادات بعث العراق والذي أورده الكاتب مع انتقاد لاذع لهيكل قال: «حاول (هيكل) بعد رحيل جمال عبد الناصر المفاجئ ان يظل يقتات من مائدته.. فلم يكن مضى ستون يوما على رحيل عبد الناصر المفاجئ، حتى استل هيكل قلمه وطرز صفحات «الأهرام» بمقالات هدفها تدبيج تبرير معلل لقرار الرئيس المصري الراحل قبول ما سُمي بمبادرة وليم روجرز (وزير الخارجية الأمريكية آنذاك) التي اوقفت حرب الاستنزاف وغذت الميول إلى التفاوض على تسوية سلمية بين العرب واسرائيل.. وانزلق هيكل إلى النيل من البعث وقومية السلطة الحاكمة في العراق فاتهمها بالتقصير المتعمد على الجبهة الشرقية ثم بمحاولة وراثة زعامة جمال عبد الناصر وسرقة دور مصر من بعده».
وفي الفصل الثاني من القسم الثاني في الكتاب بعنوان «بؤس الصراحة» يقول الفرزلي: «ان دولة الوحدة (بين مصر وسوريا) لم تسقط يوم 28 ايلول/سبتمبر 1961 (يوم سقوطها مادياً) بل سقطت تاريخيا عندما احجمت عن الانتشار لملاقاة حركة النضال العربي في الأقطار الأخرى وعندما تهيبت العدو فاشاحت بوجهها عنه.. ان الاستاذ هيكل قد بسّط الأمور عندما قال ان دولة الوحدة سقطت لانها استنفدت أغراضها». ويضيف: «ان نظرة حزب البعث إلى مصر، وإلى الشعب المصري، تبدو أكثر احتراماً لمصر وللشعب المصري من أي نظرة أخرى قائمة على التمايز بين مصر والعرب.. لانها تنبع من المصير الواحد للأمة العربية ورسالتها الإنسانية». والقول أن هناك شيئين منفصلين هما مصر والعرب يضعف العلاقات العربية، حسب المؤلف.
ويضيف: «ان الصورة الوحدوية للرئيس جمال عبد الناصر في أذهان الجماهير العربية، هي وحدها حافظت على ان يبقى حجم مصر بحجم الوحدة وان يبقى دورها العربي أكبر مما كان قبل الوحدة.. على ان غياب الرئيس عبد الناصر لا يلغي القضايا التي تصدى لها والتي صنعت المآسي». ان زعامة عبد الناصر اكتسبت شرعيتها الحقيقية من الوحدة التي جسّدت النضال العربي كله. ولولا الوحدة لما كان ممكناً ان يطلق عليه لقب «رائد العروبة». الأمة تعطي الوحدة من أجل التحرير وتصفية الاستعمار والاحتلال وليس الشخص».
وفي الفصل الثالث والأخير من القسم الثاني من الكتاب، وهو بعنوان: «وهم البطل المنقذ» ينطلق الفرزلي إلى مستوى تحليلي قد يفسر سبب انتقاله من العمل الحزبي المباشر إلى الإنتاج الفكري التحليلي، كما فعل كثيرون غيره من الشخصيات التي انتسبت إلى أحزاب مختلفة في العالم العربي وخارجه وخرجت منها مع الاحتفاظ بمبادئها فيقول: «حاول كثيرون من القادة في العالم العربي وخارجه ان يطرحوا انفسهم بطرق مختلفة على انهم أبطال منقذون لأوطانهم وشعوبهم. وقبلت شعوب عديدة، بشكل أو بآخر، أن تنظر اليهم على انهم كذلك.. وقد برزت هذه الحالة (في منطقتنا) أولاً بشخص الرئيس جمال عبد الناصر في مصر، وفي سوريا بشخص الرئيس حافظ الأسد، وفي العراق بشخص الرئيس صدام حسين. هذه الحالات خيبت الآمال واظهرت الفارق العميق بين صورة «البطل المنقذ» وبين الدولة التي قادها. فلكي يلبس القائد أو الزعيم أو الرئيس شكل «البطل المنقذ» فانه مضطر إلى رفع سقف الآمال اللازمة لتثبيت حكمه ونظامه. لكن ذلك، في كثير من الأحيان، لا يكون متطابقاً مع الواقع فتذر الخيبة قرنها عند الاحتكاكات المصيرية على المفترقات الحاسمة وتنتهي اسطورة «البطل المنقذ» بكارثة فيترك للأجيال الجديدة مشاكل مضاعفة وأكثر تعقيداً ومشوبة بالتناقضات التي تشكل مع الوقت خطراً على وجود البلد ذاته».
ويضيف ما يمكن اعتباره خلاصة الكتاب قائلا «وهنا تبرز المفارقة التي أدت إلى التباعد والتقاتل بين الناصرية والبعث لأن السبيل الوحيد للوقوف في وجهه هو المقاومة الدائمة وباي شكل متاح (كما في فلسطين ولبنان)»، «ومع ذلك فان لهذا العدو أساليبه الخاصة في مقاومة المقاومة داخل بيئتها وحواضنها. وفي هذا السياق تدخل معركة الوعي»… قائلا بأن «المتحفظين على المقاومة هم حلفاء العدو».
وهذا «يسهل على العدو اذكاء الحروب الأهلية داخل الأقطار العربية كما شاهدنا أخيرا في العراق وسوريا ومصر، وسابقاً في لبنان بفعل وجود المقاومة الفلسطينية على أرضه. ويخطئ من يظن ان العدو الإسرائيلي لم يكن طرفاً فاعلاً في تلك الأحداث، أو مؤججاً لها أو حتى مطلقا لشراراتها».
وقد تستفيد القيادات العربية والإسلامية الحالية مما قاله الفرزلي في كتابه وتدرك ان صراعاتها وخلافاتها وحروبها الميدانية والعقائدية المتصاعدة تصبُ في النهاية في مصلحة العدو الإسرائيلي المغتصب لفلسطين ولحقوق شعبها.
ويختتم الفرزلي بالقول: «يبقى بصيص من الأمل وسط هذا الركام وهو ان تقوم في العالم العربي قوى حية تتصدى للمواجهة مع العدو الحقيقي التاريخي للأمة وداعميه وقوفا صلباً ومتفوقاً».
سليمان الفرزلي: «حروب الناصرية والبعث»
دار «هاشيت نوفل»، بيروت 2016
270 صفحة
سمير ناصيف
بداية أفول الحركة القومية كانت في الخلاف بين قطبيها الناصري البعثي وبالتحديد في انعدام اي دراسة شاملة لهذا الحلاف فيما عدا كتاب واحد صدر عن دار الطليعة قبل عدة سنوات. يؤمل ان يساهم هذا الكتاب في سد هذا النقص الخطير.
كيف يمكن الخصول علي نسخة من الكتاب.