سيرة إبراهيم أبو ثريا في الثقافة الشعبية الفلسطينية.. سجال الواقع والمتخيل

يمثل المتخيل مستوى جمالياً أو متقدماً من التعديل للواقع، فهو يكتنز الدلالات، ويوظفها، أو يوجهها، تبعاً لأفق المتلقي، ولكن العلاقة بين الواقع والمتخيل، ما فتئت تعيد جدلية الخطاب والبنى النصية، فهل ينبغي للأدب حسب المنظور الملتزم بأن يحاكي الواقع ويجسده؟ وهل يستطيع المتخيل أن يضيف إلى الواقع معاني وتأويلات لا نلتفت لها في بعض الأحيان. لقد رأى أفلاطون أن الأدب محاكاة من الدرجة الثالثة، فعالم المثل ينطوي على البعد المكتمل أو الأجمل والأنقى.
ولعل المتأمل في الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء حول استشهاد الشاب الفلسطيني المقعد إبراهيم أبو ثريا، وهو يقف على كرسيه يحمل علم فلسطين في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي، وما شكله هذا الاستشهاد تبعاً للشكل والمضمون من حالة أيقونية، غزت العالم بأجمعه، لا تأتي من خصوصية الخبر، ونبل الشهادة بوصفها تعالياً ضمن المنطق الديني وحسب، إنما لكونها تنطوي على قصة، أو لنقل حكاية، هي تجسيد حكائي بامتياز، بطل الحكاية يتردد بين الخيال والواقع، بين التصديق وعدم التصديق، ولكنْ ثمة أمر نحتاج إلى تأمله ضمن وعي تحليلي ثقافي، فهذه الشخصية صاغت حضورها في الذاكرة الإنسانية عامة، والذاكرة الفلسطينية خاصة، فإبراهيم على جبهة المقاومة، وقبيل استشهاده، كان يردد على شاشة التلفاز بأن الفلسطينيين هم شعب الجبارين، وبذلك فقد نقل اللغة، أو الخطاب إلى نموذج من الفعل، والتجسيد الحقيقي، وبذلك أضحى نموذجاً رمزياً للإرادة، « الشعب الجبار» بالتوازي مع ما يبعثه استشهاد ـ هذا البطل المقعد ـ من جلد الذات في الوعي السلبي الجمعي للإنسان العربي، ولكنه ـ في بعض الأحيان ـ يبعث فينا الافتخار والأمل، وشيئا من الخجل، كما الرغبة بالثورة، والامتداد، وهذا في مجمله يتفق مع تكوين الأسطورة، لا حسب مفهوم رولان بارت الذي يرى بأن الإنسان الحديث قادر على صنع أسطورته الخاصة تبعاً لمنطق علمي منظم، في ظل وجود الآلة الإعلامية، مخالفاً التكوينات البدائية القديمة التي كانت تنهض على أن الأسطورة تتصل بالخرافة والوهم والمبالغة، فالمفارقة تكمن في أن حادثة استشهاد إبراهيم أبو ثريا جاءت صادقة وسريعة وعفوية، كما أنها أيضاً منظمة، وعلمية، حيث أسهم الإعلام في صوغ سرديتها، ولكنها تفوقت بحقيقتها، ونبضها على أداة التصوير، أو التعبير، لتنتقل إلى تشكيل متعال، يمزج بين العقلي والغيبي، والواقعي والمتخيل.
تتداخل سيرة إبراهيم أبو ثريا بطريقة أو بأخرى، من قريب أو بعيد ببطل رواية «نهاية رجل شجاع» للروائي السوري حنا مينا، وبين الحكايتين الواقعية والمتخيلة، ثمة مساحات من الجدل، فإذا كان حنا مينا من كتاب الرواية الواقعية الاشتراكية، فلا عجب أن تنتمي شخصياته إلى الفئات المضطهدة والمهشمة، غير أنها تتسم بالشجاعة، علاوة على كونها تحتفي بالكثير من القيم، ولعل أبرزها مقاومة المحتل، ورفض الانكسار، مع الإيمان بروح الإرادة، وهذا ما امتثل له مفيد الوحش، وطبّقه في رحلته هربا من قسوة الأب مرورا بمقاومة المحتل الفرنسي، وانتهاء برفض الظلم عند العمل في الميناء. لقد رفض مفيد الطبقة أو السلطة المسيطرة على قوت الفقراء، بالتعاون مع زمرة من الأذناب والمجرمين. لقد شكّل مفيد الوحش نموذجا أيقونياً للقوة والشجاعة والوطنية، فدفع ثمنها حين بترت ساقاه، ومن ثم لجأ إلى كرسي مدولب، وبعدها قاوم إعاقته، وعمل بائعاً، ليعيش بكرامة، هذه حكاية المتخيل الذي صاغه حنا مينا، ولكن حكاية إبراهيم أبو ثريا تبدو تجسيداً لهذا المتخيل، وتجاوزاً له. فعل يمكن أن يسبق المتخيل الواقع زمنياً؟ وهل يمكن أن يجسد الواقع المتخيل، ويتفوق عليه بهذا العنف الرمزي؟ كيف يمكن أن نقرأ هذه العلاقة؟ هل قرأ الشهيد إبراهيم الرواية؟ أم كان يتصرف من واقع إحساسه الفطري بالكرامة، من منطلق أن قيما ومبادئ، بدأت تتلاشى من ضمير العالم.
لقد انتهج إبراهيم أبو ثريا فلسفة الحياة مجسدة بأفعاله وأقواله، لقد خلق متخيله، وأسطورته الخاصة، لقد انتقل من عالم الواقع إلى عالم الرمز، أو الأسطورة، لقد غدا أيقونة اجتاحت العالم، وهكذا تتداخل ثلاثة مستويات: الواقع والتاريخ والأسطورة، وبينها يعبر إبراهيم أبو ثريا ليجعل من حكاية حنا مينا وشخصية مفيد الوحش هامشاً متخيلاً عابراً، لا وجود له إلا بين ضفتي كتاب، على الرغم من التشابه الظاهر بين كلا الشخصيتين في التفكير والمسلك. لقد رفضت كلتا الشخصيتين المحتل، كما رفضتا الظلم، كما كان لديهما إحساس عال بالكرامة، لقد آمنا بالعمل للعيش بكرامة، فإذا كانت قدما مفيد الوحش قد بترتا نتيجة مرض السكري بعد معاناة في السجن، والكثير من الإصابات، فإن إبراهيم أبو ثريا فقد قدميه عام 2008 أثناء قصف القوات الإسرائيلية لمدينة غزة. لم يستسلم إبراهيم للإعاقة، فتحول من مهنة الصيد إلى العمل في غسيل السيارات في شوارع غزة، وهكذا لم يقف الرجل عند حدود الاستسلام، لقد جسد إبراهيم مفهوم قوة الإرادة بممارساته الواقعية (الحياتية والمعيشية) بعيداً عن تنظيرات الوطن والمقاومة بوصفها لغة، فهو لم يجعل من ماضيه شكلاً من أشكال التباهي، والاعتماد على الآخرين، بوصفه مناضلاً مقعداً، إنما سرعان ما أعاد ذاته إلى الحياة مرة أخرى، وحين بدأ الغضب الفلسطيني لم يتوان هذا الشاب عن الخروج والزجّ بنفسه في الصفوف الأولى للمواجهة مع قوات العدو الصهيوني.
لا شك بأن الدافع وراء خروج إبراهيم على كرسيه، لم يكن سوى الإيمان بأن القدس عربية، هكذا ببساطة، بعيدا عن التنظير، والنكوص نحو الماضي، فهو لم يكن أسير مقولة بأنه دفع ما توجب عليه تجاه وطنه وأمته حين فقد قدميه، بل على العكس من ذلك، لقد طغى عليه الإحساس بالنبل عبر ذاك التجسيد العملي له، لا باعتباره نظاماً رمزياً نمارسه خلف أحاديثنا اليومية ، أو من وراء لوحات المفاتيح، والوقوف في المظاهرات وحسب، إنما النبل صفة تنطوي على رفض الإحساس بالذل عبر الممارسة، وهذا يجعلني أستشعر قيمة المتخيل الذي خطه حنا مينا حين جعل مفيد الوحش يتحسس بأن ذاته العميقة «الكرامة» معرضة للإذلال نتيجة تنمر «بطحيش» الذي حاربه في رزقه، والذي وجه الشرطة للتضييق عليه أثناء عمله في الكشك الذي كان يبيع فيه، هذا عينه يوازي الشعور لدى إبراهيم، الذي أعطبت إسرائيل وجوده، ونالت من قيمه، ومنها الأشد أهمية « القدس بوصفها رمزية دينية ثقافية» تمس الشعب الفلسطيني خاصة، والمسلمين عامة، هل كان ثمة إحساس لدى مفيد الوحش ـ في المتخيل ـ بأن الحياة لم تعد تستحق أن تعاش؟ لا شك بأن هذا المنظور سوف يعطب مفهوم الأدب الملتزم، والقائم على حتمية الانتصار، والتفاؤل المطلق.
لقد كان مفيد الوحش يتوق للحياة، إذ كان يحلم بتركيب قدمين صناعيتين، والنزول إلى البحر الذي مثل معادلاً رمزيا للحرية والجمال، غير أن مفيد آمن بأن الحياة مع الذل لن تكون ذات قيمة، ولهذا قرر أن يقتل الضابط، وأن يلقي بنفسه إلى قاع البحر، ولكن هذا المسلك ليس انتحاراً بالمعنى الظاهري، إنما هو تفسير للحياة عبر التعالي على الظلم، والرفض لكل ما يطال كرامة الإنسان، وهكذا نجد أن متخيل حنا مينا قد تعرض لتأويلات تكمن في اللغة، ولكن حكاية إبراهيم أبو ثريا تمضي نحو مماثلة المتخيل، ولكنها سرعان ما تتجاوزه، لتنهي الحدود بينهما، كما كافة الإشكاليات التي عالجها الكتاب والنقاد بخصوص هذين المكونين.
فإبراهيم أبو ثريا انتقل ليعبر الواقع والمتخيل ليمسي بطلاً أسطورياً في وعي الثقافة الشعبية الفلسطينية، والإنسانية، فهذا الوجود لكائن بسيط، لم يرغب بشيء سوى أن يعيش بكرامة في وطنه، وأن يحافظ على صدق عبارة أن «القدس عربية» كما تعلمناها جميعاً في المدارس… الأمر بسيط جداً، غير أن مواجهة تحطم الوعي التاريخي والديني قد شكل أزمة لإبراهيم تتجاوز إعاقته، وصعوبة تحصيل لقمة عيشه، إلى شيء أعقد من ذلك، هو شيء لا يمكن للبعض أن يفهمه، ومن هنا، فقد صاغ الشهيد إبراهيم خطابا ثقافياً إنسانياً، كما نهج نهجاً شديد التعقيد منطلقاً من وعيه البسيط، قوامه رفض تزييف وعينا التاريخي بعروبة القدس مهما كانت الأسباب.
إن كافة الأشعار والمقالات التي كتبت، والتقارير الإخبارية، وحتى الرسومات التي جعلت من خريطة فلسطين عكازتين لإبراهيم، أو تلك جعلت له أجنحة يطير بها… جميعها تتغذى على مفاهيم الأسطورة، التي ربما تنفتح على موروث ديني تاريخي حيث تستدعي الذاكرة جعفر الطيار.. لقد صاغ إبراهيم أبو ثريا باستشهاده حكاية جديدة في الخطاب الفلسطيني المقاوم، شأنه في ذلك شأن محمد الدرة، وغيره الكثير، كما الطفل فوزي الجنيدي المعتقل والمحاصر من أكثر 25 جندياً… المعصوب العينين والدامي الوجه. لا شك في أن الحكاية الفلسطينية تأخذ يوما بعد يوم شكلها، بحيث تتراكم حكايات الأبطال، وصورهم بدءا من الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 حتى اليوم، ولتمسي مروية أجمل ما فيها أن واقعها البطولي قد طابق أساطير المتخيل لجميع الشعوب، أو لعله تفوق عليها.

٭ كاتب فلسطيني أردني

سيرة إبراهيم أبو ثريا في الثقافة الشعبية الفلسطينية.. سجال الواقع والمتخيل

رامي أبوشهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية