أعرف الحمام الزاجل المسافر كما أعرف الكتاب المسافرين. منذ فترة نشطت كتابات السفر، شاهدنا في رفوف المكتبات كتبا عن الكتاب المسافرين، لكنني أجهل الفرق، ولا أعرف ماذا يعني هذا. يبدو لي أن كل كتابة هي سفر، في الزمن، في الفضاء، وقبل كل شيء في الجغرافيا الشاسعة للكلمات.
يبدو بعض الكتاب كهؤلاء الرّحالة والمسافرين الذين اختاروا أن ينحتوا جغرافيا خاصة بهم، عبر الكلمات بميولهم في الحياة والوجود والكتابة، كأنما آثار أقدامهم وعبورهم بمثابة خرائط رمزية تشي باختياراتهم وطرائقهم الصعبة في الوجود والكتابة. اختاروا من الكلمات والحياة لينحتوا وفق هذا الاختيار وجودهم في أن يكونوا ضمن اختياراتهم الباذخة والصعبة.
يكتب الناقد والمترجم بنعيسى بوحمالة انطلاقا من جغرافيا وضمن خرائطيّة تشي باختياراته الشعرية والفنية المختلفة، وتبرز تلك المضائق الصعبة والنّائية في جمالها، المنتمية والمجتزأة من ذائقة وجودية تقول عبر اختياراتها الجمالية والحياتية انتماءها وسكناها العميقة والصعبة والنّائية في حفرها فيما هو جميل، فاتن وناء.
مسكونة كتاباته بعشق هذا المقيم في الوضوح الملغّز، والذي يتخذ من المجهول أفقا، لا يتوقف عن الإنصات له مقيما في الكائن أمامنا. اختياراته الشعرية وقراءاته هي نوع من المساءلة الشعرية الجذرية حيث القراءة انفتاح على اللايقين والمستقبل والمتعذّر الإمساك به. في اختياراته وفي قراءاته وفي ترجماته نوع من الحوار يجسد انشغاله الأساسي في اقتفاء آثار مسكونة بانخطافات العبور وهشاشاته. قراءات هي نوع من السفر والترحل عبر النصوص الحدودية، اختراق للغتها وتعمق في فاعلية شعرية مسكونة بلغز الشعر، قراءات تمتد اليد فيها داخل اللغة جاعلة الحبر يتقدم، يحتك بالورق راسما خطوطا، هي خطوط حيوات، خطوط القلب والحظ، راسما على بياض تجابهه به هذه النصوص خطوطا وبصمات، في نوع من المحاورة الفذة والحيوية، مرتعشة، مترنحة، تضيء سدم القصيدة، كوارثها ولا يقينها.
يكتب الناقد بنعيسى بوحمالة كما يحيا، على هذه الأرض حياته، مشاهده التي يمجدها، إقامته وأفقه، هنا أيضا عبوره، هنا يلتقي بأشباهه العابرين، المراكبيين والراكبين، يحدث أن يجد نفسه في العبور، معلقا في مضايق الولادات والاختفاءات التي لم يقرّر فيها، ذهاب وعودة تتحكم فيها الصدف أحيانا، بعيدة. يمشي في كتابته، ينحت جغرافياه ويجعل من قراءاته أراضي وأوطانا مستحيلة، ينحت طرقه في الحياة وعلى الورق وفي اللغة والأفكار، يسائل الوجهات والإقامات، ويكرّر «إن الرحيل يكفيني»، يعرف أننا محكومون بالاختفاء، لذلك يهيّئ إقاماته الباذخة في أرض العبور. كانت الكتابة ومقاربة تلك الاختيارات في القراءة والترجمة متعلقة بخطوه ومشيه، وكانت الكتابة عن الشعر والولع بالترجمة متعلقة بالأقدام، خطوات محسوبة، أربطة مطاطية، أحذية مجروحة. هذا الفاني العابر في الأرض متطلعا جهة السماء، هو رجل همّ يتفاقم، رجل متخيّل لايزال قائما، وحلم متأخر في الظهور، هو رجل سؤال مستمر ويتجدد، يفكر في شيء آخر وبطريقة مغايرة، مانحا ما يشتغل عليه وفيه إضاءات أخرى تأتي من ذلك الهناك الصعب التي لا تتم مقاربته إلا بإحراق المراكب القديمة والتعمق بعيدا في ليل معرفة مغايرة همّها مراودة المتعذر قوله لانتزاع سؤالها المضيء من قلب عتمات الأحشاء.
قراءة كتابة كالمشي على الرأس، تفكير، تأمل، حلم إقامة داخل العالم جاعلة من مجاورة الأساسي في التجربة والقصيدة نوعا من الوظيفة الهرمسيّة لتجعل منه الساحر الروحاني الحالم بتحولات الحياة والوجود مستعيدا عبر كتاباته الثقة في العالم، محدّقا، مترحّلا في سدم القصيدة، في حروقها وكوارثها ووجودها الملغّز. يعرف هذا الكاتب المجاور للصعب في النصوص أن ينصت للأشياء الجامدة أو للكائنات المختفية، يستبق بأناه التي تنسى نفسه الوصول إلى هذه المناطق الغريبة والبرّانية، يذهب نحو المجهول والغامض حيث يضحى الملغّز صفة للتقدم والمخاطرة.
٭ شاعرة ومترجمة من المغرب