دمشق ـ «القدس العربي» من زينة شهلا: عند مدخل «دار نمر للفن والثقافة» وسط بيروت، يطالع الزوار جدار أبيض كتبت عليه عبارات تتحدث عن «الموت الذي يسكن قربنا، وهياكلنا العظمية التي نلمسها بحذر يوميا كي نتأكد بأنها لم تتحول إلى رماد بعد، وعن بقايا أسلافنا وحاضرنا الذي نعيشه منذ الأزل، في موتنا المقبل رغم ادعائنا الحياة»، في تعريف للروائي السوري خالد خليفة عن معرض النحاتة السورية صفاء الست المقام في الدار.
كلمات قد تبدو صادمة للوهلة الأولى، إلا أن التفاتة صغيرة يمينا أو يسارا ستكون كفيلة بمعرفة مدى ملامستها واقع المعرض، الذي يحمل عنوان «الموت يسكن قريبا مني»، حيث تقف وتستلقي في صالة العرض منحوتات من حديد ونحاس لأجساد حيوانات ميتة لم يبقَ سوى أجزاء من هياكلها العظمية، في محاكاة لضحايا الحرب السورية مجهولي الهوية.
ثور غير مكتمل. زرافة يتجاوز طولها المترين. بقرة تضحك وترقص رغم موتها. طيور متنوعة كالببغاء والباشق والغراب والحمام، منها ما فقد رأسه أو جزءا من جسده بعد الموت، ومنها ما هو مستلقٍ على ظهره أو أحد جانبيه. غزال برأس مائل للخلف. معزة بدون قدمين. وعلٌ غرزت قدماه في الأرض. جاموسة وخروف عاريان وغير مكتملين. كلب مستلقٍ بجانب إطار سيارة يبدو بأنها دهسته. جميعها دلالات على من فُقدوا خلال الحرب والحصار في سوريا بدون أثر، وتحولوا إلى أشلاء وجيف لم يعد بالإمكان معرفة مصيرها، وفق حديث الفنانة لـ«القدس العربي» في لقاء معها داخل المعرض الذي يقام بالتعاون مع «آرت أون 56».
«تساوى الإنسان والحيوان في الحرب السورية كما في غيرها من الحروب»، تقول الست وهي خريجة كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام 1997، وتضيف: «يموت الإنسان في سوريا اليوم بدون أن يكون لأهله الحق في كثير من الأحيان بدفنه أو الصلاة عليه أو استعادة جثمانه أو حتى أجزاء منه، وهذا ما أحاول قوله من خلال هذه المنحوتات». فكرة المعرض بدأت قبل عامين عندما وقعت عينا الست، التي لا تزال مقيمة داخل دمشق، على حمامة ميتة ومنسية في حديقة أحد الأصدقاء المسافرين، حيث لفت الهيكل العظمي «الجميل» نظرها ليرتبط فورا بضحايا الحرب السورية مجهولي الهوية، وهي فكرة كانت تشغل بال الفنانة منذ وقت طويل، وتوّلد داخلها تساؤلات عن ماهية أي عمل فني يمكن أن يتحدث عنهم.
تحويل الصور لمنحوتات
انطلقت حينها رحلة الست في البحث عن صور جيف حيوانات ميتة عبر شبكة الإنترنت، واختيار ما يغريها ويمكن أن يلائم فكرتها بتحويلها لمنحوتات معدنية تحاكي شكل ومقاسات وتشريح أجساد الحيوانات الحقيقية. «اختياري للحيوانات عشوائي تماما، مع التركيز على تلك الضعيفة، التي تشبه مَن ماتوا في سوريا. حاولت أيضا انتقاء الصور التي تتضمن نوعا من الفن في طريقة وقوف أو استلقاء جسد الحيوان الميت، وأضفت إليها لمستي الخاصة الخارجة عن القواعد، التي أعطتها هذه القساوة وجعلتها تبدو وكأنها جسد حيوان ميت وليس هيكلا عظميا».
استخدمت الست موادها المفضلة وهي الحديد والنحاس التي تطوعها وتصبها بما يلائم أفكارها الفنية، مع إدخال بعض قطع الخردة، كما في الثور الذي يكتمل جزء من جسده مع قطعة حديدية وجدتها الفنانة في الشارع فالتقطتها ونظفتها، أو إطار السيارة في منحوتة الكلب، الذي يشير إلى من لقوا حتفهم دهسا بآليات الحرب، وارتباطهم بالحيوانات التي تموت تحت عجلات السيارات على طرق السفر بدون أي اعتبار.
معظم الحيوانات يبدو الموت والألم واضحا على وجهها، عدا البقرة التي تقف مبتسمة ورافعة قدمها الخلفية. وعن هذه القطعة تقول الست: «استغرق نحت البقرة شهرا كاملا، وخلال هذه الفترة لم أتمكن من محو ابتسامتها. كانت تضحك رغما عني وترفض الموت، ما دفعني في نهاية المطاف لرفع قدمها ودفعها للرقص. تريدين الضحك؟ ارقصي إذن».
ويكتمل المعرض بعملين مختلفين قليلا، لكن مرتبطين بالشكل والمضمون بفكرة ذلك الموت العبثي. الأول «مائدة الطعام»، الذي أضافت إليه الست مادة الريزين، حيث شكّلت منحوتات من أرجل أبقار حقيقية بعد تكسيرها وإعادة قولبتها على شكل أقدام راقصة باليه وتلوينها بألوان زاهية، ثم غرزت فيها أدوات طعام من ملاعق وشوك وسكاكين ومقال في مجموعات أكل مكتملة، وأخرى لأطعمة معينة كالباستا. مائدة الطعام دفعت كثيرين من زوار المعرض للضحك كما تقول الست، حيث عبّر بعضهم عن شعور بالاستفزاز، «وكأن أدوات الطعام هذه تسخر منا»، حسب تعبيرهم. ولعلّ هدف الفنانة مقارب لهذا الشعور، «ففي مطابخنا نقتل الحيوانات بكل وحشية كي نأكلها. ونحن أيضا في الحرب قتلنا بالوحشية نفسها لكن لأغراض أخرى».
العمل الثاني عبارة عن تركيب من خمسة عشر كيسا صُنعت من شبك معدني وعُلقت على مشجب طويل. تحتوي الأكياس على عظام حيوانات مختلفة، وهي المرة الأولى التي تتضمن أعمال الست فيها هذه المادة، بما ساعدها في إبراز فكرة ضحايا الحرب والحصار ومجهولي الهوية، الذين يموتون وقد يوضعون في أكياس بدون أن يعرف بموتهم أو مكان دفنهم أحد. ولم يكن استخدام العظام بالأمر السهل، حيث استغرق تنظيفها ومعالجتها بمواد خاصة بعد الحصول عليها من المسالخ قرابة أربعة أشهر، بغية التأكد من قتل الخلايا الحية الموجودة داخلها وإزالة أي رائحة كريهة منها، مع الحفاظ على شكلها.
عمل مضنٍ
ترفض الفنانة السورية التوقف عن العمل أو فقدان الأمل رغم أوجاع الحرب. «ما زلنا قادرين على التغيير، والفن الذي أقدمه هو تعبير عما يجول في داخلي، وعما نعيشه كل يوم في سوريا». لم تكن صناعة تلك المنحوتات سهلة داخل ورشة الست الصغيرة الكائنة في سوق النحاسين في دمشق، التي لا تتجاوز مساحتها الأمتار المربعة الستة، فالحيز الصغير أجبر الفنانة على نقل كل قطعة تنتهي منها لمستودع جُمعت فيه كل المنحوتات ثم جُهزت في مراحلها النهائية لتنقل بعدها إلى بيروت. وعن اختيار مكان العرض تقول الست: «لم أجد صالة عرض في دمشق تتسع لكافة المنحوتات، ولا يمكنني عرض جزء منها لأن ذلك انتقاص من الفكرة. لم يكن أمامي خيار سوى دار نمر التي اتسقت صالة عرضها بشكل مذهل مع القطع الفنية، حيث لم أحتج سوى بضع ساعات لترتيبها ووضع كل قطعة في مكانها الصحيح».
ومنذ افتتاح المعرض منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الفائت وحتى اليوم، تلقت الفنانة ردود أفعال وصفتها بالرائعة والمفاجئة في آن معا، في إشارة لنقلة نوعية في مسيرتها الفنية. «هناك إجماع من كافة فئات الحضور ومن المختصين وغيرهم على مدى أهمية هذا المعرض جماليا وتقنيا، وقوة الفكرة التي يطرحها. رغم عدم مباشرة الفكرة، إلا أنها المرة الأولى التي أعمل بهذه الواقعية، ولعلّ الصدمة التي تركتها أجساد الحيوانات الميتة في نفوس الزوار أبلغ دليل على هذا».